لم يتم الرد حتى الآن- عبدالله السويجي
ليس مهماً إن كانت “إسرائيل” قد قصفت قافلة عسكرية سورية أو مركز أبحاث، المهم أن طائراتها اخترقت يوم الأربعاء الماضي الأجواء السورية، واعتدت على الأراضي السورية، ودمرت وقتلت وجرحت وعادت أدراجها بسلام من دون أن تُطلق عليها رصاصة أو صاروخ، ومن دون أن ترد سوريا حتى الآن رغم إعلانها أنها تمتلك الحق في الرد في الوقت المناسب . وكانت الأراضي السورية قد تعرضت لاعتداء “إسرائيلي” في السادس من سبتمبر/ أيلول العام ،2007 وقصفت ما أسمته المفاعل النووي السوري في دير الزور، واغتالت اللواء محمد سلمان المسؤول عن المفاعل، وليس مهماً ما جاء في تفاصيل عن العملية وردت في كتاب كتبه المؤلفان “الإسرائيليان” يوسي ميلمان ودان رافيف، من أن إيهود أولمرت رئيس الوزراء “الإسرائيلي” آنذاك، قد اتصل بالرئيس جورج بوش وقال له بالحرف الواحد: “أريد أن أبلغك فقط، بأن ما كان لم يبق بعد”، المهم أن “إسرائيل” قد اعتدت على الأراضي السورية، ولم نر الصواريخ السورية تنطلق لتقصف “تل أبيب”، كما توقع جنرالات الجيش “الإسرائيلي” .
وليس مهماً إن كان المفاعل النووي العراقي قد شيّد بالتعاون مع فرنسا باتفاق بين الرئيسين صدام حسين وجاك شيراك، أيام كان الأول نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وكان الثاني رئيساً للحكومة الفرنسية، لكن المهم أن الطائرات “الإسرائيلية” قامت في 7 يونيو/ حزيران 1981 بتدمير المفاعل، ولم يرد العراق إلا بعد عشر سنوات في محاولة لكسب الشارع العربي بعد أن احتل الكويت .
وليس مهماً إن كان “سييرت همتكال” هو الذي أطلق النار على رأس القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) أم كوماندوس آخر في تونس، المهم أن وحدة عسكرية “إسرائيلية” اعتدت على الأراضي التونسية يوم 16 إبريل/ نيسان العام 1988 واغتالت خليل الوزير أمام زوجته . ولم ترد تونس حتى الآن .
وليس مهماً إن كانت دوائر مقربة من نظام الحكم في السودان هي التي قدمت تقارير للمخابرات المركزية الأمريكية عن مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، على أنه مصنع أسلحة، وليس مهماً إن أشارت تقارير أمريكية شبه رسمية إلى أن المصنع قصف خطأ وبناءً على معلومات استخبارية غير صحيحة مستقاة من دوائر سودانية معارضة، والمهم هو أن الطائرات الأمريكية اعتدت على الأراضي السودانية في أغسطس/ آب من العام ،1998 وقصفت مصنعاً طبياً أو عسكرياً لا فرق، كما قامت “إسرائيل” باختراق الأجواء السودانية وقصفت أكثر من هدف في أكثر من مرة بحجة أن الأسلحة كانت في طريقها إلى حركة حماس . ولم يرد السودان حتى الآن .
وليس مهماً إن كانت المدفعية أو الطائرات الإيرانية في 7 يونيو/ حزيران 2010 هي التي قصفت قرى ومواقع حدودية عراقية تابعة لمحافظة أربيل، وذلك بالتزامن مع تحليق مروحيات إيرانية بكثافة في سماء هذه المناطق، والمهم هو أن الأراضي العراقية قد انتهكت، ولم يرد العراق حتى الآن .
وليس مهماً إن كانت تركيا قد قصفت خمسين أو أربعين موقعاً لمتمردي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق في يناير/ كانون الثاني ،2013 وليس مهما عدد طائرات ال “إف 16” التي أقلعت منتصف الشهر الماضي من قاعدتها في ديار بكر جنوب شرقي تركيا، وقصفت أهدافاً في جبل قنديل شمالي العراق على بعد 90 كلم من الحدود التركية، المهم أن الطائرات التركية اعتادت قصف الأراضي العراقية بين حين وآخر، ولم يرد العراق حتى الآن .
ولن نذكر تواريخ الاعتداءات “الإسرائيلية” على الشعب الفلسطيني في كل مكان، داخل فلسطين وخارجها، ولا على مقدساته، فهي يومية وعلى مدار الساعة، وإذا كان الشعب الفلسطيني ليس لديه جيش حتى الآن، ولا يمتلك طائرات أو صواريخ بعيدة المدى، وهو مغلوب على أمره في معظم المجالات السياسية والعسكرية والحياتية، وقدرته على الرد متواضعة جداً، فإن الدول التي تتعرض أراضيها للاعتداءات وأجواؤها للخرق هي دول ذات سيادة ولديها جيوش وصواريخ وطائرات وخبراء وجنرالات ومؤسسات وإمكانات كبيرة، ولكنها لم ترد، ولم تحاول الرد، بينما تستطيع أن تظهر قوتها في نشر دباباتها في شوارع مدنها وفي التصدي للشعوب بكل أنواع التنكيل، يعني أن هذه الدول وغيرها تتحول حسب اللهجة المصرية الظريفة إلى (ملطشة) للطائرات والقوات “الإسرائيلية”، بينما تمارس القوة والشجاعة والبطولة في محاربة شعوبها أو محاربة بعضها بعضاً، وهو أمر يدعو إلى الحيرة، وتنضم إلى هذه الدول تنظيمات متطرفة مثل تنظيم القاعدة وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الجهادية التي تظهر بسالتها ومهارتها في القتال ضد الجيوش العربية في ليبيا وسوريا والعراق وتونس واليمن ومالي وغيرها، بينما تهادن بكل برود الكيان الصهيوني، ولم نسمع لها صوتاً خلال الاعتداءات المتكررة على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل إن تنظيم الإخوان المسلمين الذي يضم مئات الآلاف من الأعضاء في مؤسساته ومنظماته، ويمتلك قوة اقتصادية ومادية وإعلامية لا يستهان بها، ويسعى للوصول إلى الحكم في أكثر من بلد عربي، لم نسمع أنه تحرك لقتال العدو، لا بالكلمة ولا بالسلاح، وما هذه الزيارات الرسمية لبعض رموزه إلى قطاع غزة، إلا نشاط إعلامي يصب في النهاية في مصلحته وأهدافه التنظيمية .
إن ما أطلق عليها (ثورات الربيع العربي) كشفت أمراً مرعباً وهو: وجود طاقات قتالية وتسليحية كامنة في المجتمعات العربية، لديها رغبة عارمة (للشهادة) أو الموت في سبيل إسقاط (الطاغية أو المستبد أو الجمهوريات الملكية)، حتى وإن كلّفها هذا تدمير مدن بأكملها، وارتكاب مجازر بالمدنيين (الموالين) للأنظمة، وفي ذات الوقت تدّعي أنها تقاتل في سبيل الله .
هذا المشهد بدأ يرسم حيرة كبيرة على وجوه المراقبين، في ظل غياب فلسطين من أجنداتهم، ونسيانهم الأماكن المقدسة المحتلة التي تتعرض للتدنيس كل يوم، وكل الخوف أن يعتبر المجاهدون هذه الأماكن المقدسة غير شرعية ولا بد من هدمها، فإن هُدمت على يد اليهود كان بها، وإلا سيهدمونها هم، كما فعلوا في ليبيا وأفغانستان ومالي وسوريا الآن .
المشهد المربك يمكن تلخيصه كما يلي: دول تتعرض للاعتداء من الولايات المتحدة و”إسرائيل” ولا تحرك ساكناً، ومجموعات تقوم بالاعتداء على الناس والجيوش العربية لتفكيكها وبناء (إمارة) وربما جيوشاً للفتوحات، ويبدو أن العدو “الإسرائيلي” ليس في أجندة هؤلاء، وفلسطين ربما تكون وفق نظرهم واعتقادهم، يحكمها (أهل كتاب)، واليهود ليسوا مشركين أو كفاراً حتى يُقاتَلوا .
الاعتداءات من الخارج والداخل متواصلة، ولا أحد يرد على اعتداءات الخارج، أما اعتداءات الداخل فالسلطة كفيلة بها، حفاظاً على الكرسي، وليس الدولة والوطن والمؤسسات، وللاحتمالات بقية .