الصمت لا يعني الموافقة أو الرضا!- ثروت زيد
رغبات حبيسة، مطالب لا تبوح بها الأفواه ولم تنبس ببنت شفة، أحلام مقموعة وجدت لها في الذاكرة مهجعا، التحدث مع الذات هو حال السواد الأعظم في مجتمع جرفته الحاجة إلى حافة العوز، جعلته في حراك دائم، رغم ضيق المكان يبحث عن عيشة مستورة ليس إلا، وما يبوح به المرء أو يفعله أو يمتنع عن الكلام لأجله لا يعبر بمصداقية وبشكل كامل عما يدور في داخله ولا يعكس رغباته، دهاليز وأسوار من جدر صماء تستر في أعماقها دفائن تجعل الرحيل بين اللحظة والأخرى أزمانا وعصورا. لقد أحكم الطوق أفعالنا بشبكة نسجت خيوطها بكل معاني الإكراه الناعم والمساومة على المستويين الفردي والجماعي، ورغم القيود التي أصبحت جزءا من قاموس فرضت معانيه الجيوب الخاوية، مفردات رُحلت عنوةً بفعل واعٍ أو بجهل غير مبرر إلى شعاب تحرف البوصلة عن قبلتها، إلا أننا نتحايل ونبحث عن مساحات بين الكلمات لنعبر منها إلى جنبات الذات المكبوتة لنبقي على دبيب الحياة للحظة رهان تصحو فينا، وتموت خطب عصماء أثقلت هبات الفرح في بلوغ عتبات الأمل المهجور.
إن ما يثير العجب أن نصر على التحايل لتفهم دور القوى العبثية العاتية التي تلهو بحياتنا، ونكاد نصدق أن مستقبلا جبارا ينتظرنا رغم الانهيار الوشيك، نتدافع لإيجاد التبريرات غير المتوازنة في تعاملنا مع ادعاءات المانحين بحرصهم على إنصاف المرأة وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتنفيذ برامج عديدة في ظاهرها خدمة مجتمعنا وفي باطنها تكمن ويلات تنعكس على منظومتنا القيمية والاجتماعية وحتى الوطنية.
إن هؤلاء المتباكين على الحرية والعدالة في المحافل الدولية بدعوى أن لديهم رؤية للعالم الجديد، يستخدمون (الفيتو) على كل حقوقنا من جهة، وفي الوقت ذاته يتغلغلون في مؤسساتنا بحجة الدعم والتطوير، باعتبار أننا مجرد جماعة بشرية وجدت في غفلة من الزمن تستحق الشفقة وتلبية حاجاتها الأساسية كي تعيش ما قدر الله وشاء، وليس أصحاب قضية عادلة تعاني من أبغض احتلال عرفته البشرية، ويصل مكرهم إلى الاهتمام بتطوير ما ننعته بالجيد من مقدراتنا حتى يسجلوا نجاح برامجهم، دون الاهتمام بأولويات الحاجة لدينا، ينفقون على خبرائهم جزيل العطاء الذين غالبا ما يكونون متدربين في بلدانهم أو من تجاوزتهم عجلة التطوير هناك، ليتبقى رذاذ لا يكاد يترك أثرا ينثرونه في حقل تجاربهم حتى لا يلبث أن يصبح أثرًا بعد عين.
إن التهافت على تبرير التعاطي مع المنكرين لوجودنا وحرماننا من ريح البرتقال وظل شجر الزيتون في تلالنا يثير فينا الاستهجان، فهل الحكمة تفرض علينا أن نبحث عن الممكن وبأي ثمن؟ هل فقدان فرصة تمويل مشروط يصل إلى درجة فحص سلامتنا مما يزعج سياساتهم أمر مقبول؟ إنه التباعد والشقاق بين ما نفعله وبين الأسلوب الذي نعبر به عن أنفسنا، بل هو حالة انفصال حقيقية بين الفعل وبين ما نضفيه على الفعل. ليس سراً أن المنتفعين والمستفيدين من هذه القوى العابثة بمقدرتنا سواء بامتيازات شخصية أو عينية أو رواتب، تجدهم يزاوجون بين قناعات تتعارض كليا مع القيم التي نؤمن بها وبين ما يتم فعلا، إذ يتم استخدام الفئات الاجتماعية التي صمتت كثيرًا في ظاهر الحدث، إذ لا يجد الكاظمون الغيظ تفسيرًا في تنفيذ برامج تقدر بملايين وأبناؤهم يعانون من ضنك العيش، وفي الوقت ذاته يعلمون علم اليقين أن هذه المشاريع تضخ في برامج متنوعة من دول صنعت حالة التجويع والانهيار الاقتصادي الذي نعاني منه. تزداد الحال سوءاً مع مطلع كل شهر ومع بداية كل فصل دراسي، ومع كل مولود يولد حتى لو كان من تلاقح الغيوم وهطول المطر، وكلما لامست مسامعنا معزوفة دعم من دولة شقيقة أو صديقة أو (معادية) نصفق بما تبقى من أجنحة الرجاء، حيث أصبحت المساعدات محل شؤم وعقاب كلما ارتفع صوت الحق ودققنا الأبواب، لم يساورنا الشك يوماً أن هذه المساعدات لم تكن إلا فاتورة مغمسة بسوء النوايا تسدد بالنيابة عن الاحتلال، ليس من عاقل يدعو لتوقف المساعدات والمنح والهبات، بل على النقيض فالحال تتطلب المزيد لكن دون شرط وأثمان سياسية، مساعدات لا شبهة فيها ولا اتساخ.
همساتُ الحيرة تلسع بترددها ضمائرنا قبل أن تنال من حاكورة سلة غذاء حارتنا، وسكوت فيه ثراء زائف ووحشة وألم يلف حاضرنا ومستقبلنا، أزقة مخيمنا تحرقها الرغبة في العيش بيوم آخر لا حفر فيه، وعينان دامعتان ذهب لونهما تحلمان بأزلية الحق الذي لا يباع ولا يشترى، لا نملك براميل وقود يتوهج في نخاع عظامنا إلا مفتاح بيت تهدم وذكرى دم الشهداء؛ هي سر الانتصار لسيادة عقولنا وكبريائنا، وما طالت حياة كان الصمت لها ثمن!