تونس الشهيدة .. الإرهاب يغتال المناضل شكري بلعيد - توفيق المديني*
تشكل عملية الاغتيال القائد السياسي والمناضل شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، اغتيالا للثورة التونسية، وجريمة دولة بامتياز، وهي سابقة خطيرة في تونس، إذ لأول مرة تشهد البلاد التونسية حالة من هذا الاغتيال السياسي لشخصية وطنية معارضة تنتمي إلى اليسار التونسي الراديكالي. فالمعارضة التونسية سواء منها اليسارية أو القومية لم تلجأ في تاريخها إلى ممارسة العنف في إطار صراعها السياسي طيلة العقود الربعة الماضية ضد النظام البورقيبي، وضد نظام زين العابدين بن علي، بل كانت تلجأ إلى استخدام الوسائل النضالية السلمية، كالإضرابات الجماهيرية، والمظاهرات، والنضالات الديمقراطية. لهذا السبب كانت المعارضة التونسية بشقيها اليساري والقومي، منسجمة كليا مع طبيعة المجتمع التونسي الذي يرفض ثقافة العنف، ويرفض أيضاً الأساليب العنفية لفض التناقضات السياسية بين الدولة والمجتمع.
وجاءت الثورة التونسية ذات الطابع السلمي التي أسقطت نظاماً أمنياً ديكتاتورياً لتؤكد هذه المقولة، وهي رفض المجتمع التونسي للعنف بكل أشكاله وصوره. غير أنه منذ أن استلمت حركة النهضة الإسلامية السلطة في تونس، بدأت مظاهر العنف السياسي تنتشر في تونس، لاسيَّما من جانب السلفيين الجهاديين. وفي ظل الفراغ السلطوي الذي كان قائماً في تونس طيلة المرحلة الماضية، إضافة إلى هشاشة الحكومة المؤقتة بقيادة حركة النهضة الإسلامية، ظهر السلفيون الجهاديون بلباسهم المميز ولحاهم الطويلة في العديد من المدن التونسية، لاسيَّما في العاصمة، وبنزرت، وسوسة، رغم أنهم لا يشكلون سوى أقلية ضئيلة في الطيف الإسلامي الواسع لكنهم يريدون فرض منظومتهم العقدية التي يؤمنون بها، ويقدسونها ويتمسكون بها ولا يقبلون فيها نقاشاً ولا حواراً بواسطة العنف المنهجي على مجتمع تونسي يغلب عليه الإسلام السني المالكي المعتدل، والتقاليد والقيم العلمانية في شكل واسع.
إضافة إلى العنف الذي تمارسه الجماعات السلفية الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، هناك العنف السياسي الذي تمارسه مليشيات حركة النهضة الإسلامية، الملقبة بـ "رابطات حماية الثورة"، والتي تدعي أنها تدافع عن أهداف الثورة، لكن ممارساتها القائمة على محاولات الاستفزاز المتكررة، والتحريض على الكراهية، واللجوء إلى استخدام العنف السياسي المُمَنْهَج والمُنَّظَم وفق مخطط سياسي مدعوم من حركة النهضة تستهدف إرهاب وتخويف أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية، والنقابات التونسية الوازنة في البلاد، وقوى المجتمع المدني الحية، و الدفع بالمسار الانتقالي إلى مربع العنف السياسي، في ظل الحصانة من المحاسبة والمساءلة القانونية. وهذا ما جعل معظم المراقبين في تونس، يتوصلون إلى نتيجة واحدة، أن هذه الجمعية "رابطات حماية الثورة" لا علاقة لها بالثورة، أو بحمايتها، لأن معظم المنتمين إليها كانوا في السابق خريجي سجون، وأعضاء في حزب التجمع الديمقراطي المنحل، و عناصر لا يتجاوز تعليمها صف السادس الابتدائي، وهي الفئات الاجتماعية التي تنتمي عادة إلى قاع المجتمع التونسي، والتي يسهل توظيفها من قبل الأحزاب الشمولية للعب دور مليشيات مأجورة، لقهر الخصوم، وتنفيذ عمليات إجرامية قذرة.
قبل حادثة الاغتيال السياسي الذي تعرض لها المعارض البارز شكري بلعيد، قامت "رابطات حماية الثورة " باغتيال الكاتب العام للاتحاد الجهوي للفلاحين لطفي منقض (الذي ينتمي إلى حزب نداء تونس الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق السيد الباجي قائد السبسي) بمدينة تطاوين التي تبعد 600 كلم جنوب العاصمة، يوم 18 أكتوبر 2012، على إثر احتجاجات قامت بها، «رابطة حماية الثورة » التي تصنفها المعارضة التونسية بأنها مليشيا تابعة لحركة النهضة الإسلامية الحاكمة.علماً أن الدولة التي تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية لم ترتكب الجريمة وإنما أسهمت فيها بالصمت عن كل تلك التهديدات والاعتداءات السابقة التي تعرض لها هذا المعارض.
قبل خمسة أيام من اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، قامت مجموعة من السلفيين المتشددين باقتحام المركب الثقافي الصحي المسراطي بالكاف يوم السبت 2 فبراير الجاري،محاولين الاعتداء على الحاضرين في القاعة، التي كان الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والقيادي بالجبهة الشعبية السيد شكري بلعيد، يلقي فيها كلمة بمناسبة الاجتماع الأول بالكاف لرابطة حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد.وقد أدّى هذا الاعتداء إلى سيادة حالة عارمة من الفوضى في صفوف الحاضرين، بعدما تم رشق المركب الثقافي بالحجارة والعبث بمحتوياته مما أدى إلى خسائر مادية بالجملة اثر ذلك، ولم تأت قوى الشرطة إلا متأخرا لفض النزاع وإبعاد السلفيين حتى لا تتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه. وقد قتل المعارض اليساري شكري بلعيد بعد يوم من كشفه أسماء المتورطين من حركة النهضة الإسلامية في الاعتداء عليه في مدينة الكاف.
لاشك أن هذا الاغتيال السياسي لشخصية سياسية يسارية وطنية سيلقي بظلاله القاتمة على المشهد السياسي التونسي، الذي بات خاضعاً لدائرة من العنف السياسي المنفلت من عقاله، في ظل غياب الدولة، وإخفاق حركة النهضة الإسلامية عن إدارة هذه المرحلة الانتقالية.
حيث أن الحكومة الحالية التي يرأسها السيد حمادي الجبالي تتحمل مسؤولية رئيسة في عدم حماية أمن التونسيين، بسبب عدم رغبة حركة النهضة الإسلامية المسيطرة على الوزارات السيادية، وفي القلب منها، وزارة الداخلية، في بناء أجهزة أمنية ذات طابع جمهوري، تدافع عن قيم الثورة، وتحترم مؤسسات الدولة، وتكافح الجماعات السلفية وغيرها من المليشيات، التي تمارس العنف ضد المعارضة التونسية، وضد المجتمع المدني التونسي، في ظل الحصانة الكاملة من العقاب. وهذا ما جعل معظم الأحزاب السياسية في تونس على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية تحمل حركة النهضة مسؤولية رئيسة في عملية الاغتيال السياسي للمعارض اليساري شكري بلعيد.
لقد أجمع أقطاب الطبقة السياسية التونسية على إدانة هذا الاغتيال السياسي بشدة باعتباره جريمة إرهابية، والإرهاب هو دائما بربرية... والذي يلعب بنار الإرهاب، سيكتوي بهذه النار عاجلا أم آجلا، لأن الإرهاب هو نقيض الديمقراطية، وسلاح القوى الظلامية والفاشية والديكتاتورية التي لا تؤمن قولا وفعلا ببناء الدولة الديمقراطية التعددية في تونس.
أما من له مصلحة حقيقية في عملية اغتيال المعارض البارز شكري بلعيد؟
بعيداً عن الاتهامات المتسرعة التي تنطلق من المشاعر، في ظل غياب تحقيق أمني وقضائي نزيه، هناك حقيقة موضوعية قائمة في تونس، وهي العداء الشديد الذي تكنه حركة النهضة الإسلامية لليسار الراديكالي في تونس، وهو عداء تاريخي لأنه وحده اليسار هو الذي كان يواجه الحركة الإسلامية على الصعيدين الأيديولوجي والسياسي منذ عقد السبعينيات ولا يزال ليومنا هذا. و في انتفاضة سليانة الأخيرة التي جرت في أواخر سنة 2012، ولعب فيها حزب الوطنيين الديمقراطيين دورا رئيسا في تأطيرها، اتهمت الحكومة الإسلامية،و كذلك الشيخ راشد الغنوشي حزب شكري بلعيد علنا بأنه هو الذي يقف وراء تلك الانتفاضة.
المعارض اليساري شكري بلعيد يعتبر رقما صعبا في المعارضة التونسية، وهو من مؤسسي الجبهة الشعبية، التكتل اليساري الذي يمتلك مشروعاً مجتمعياً مغايراً كليا لثقافة وقيم حركة النهضة الإسلامية، ولبرنامجها الليبرالي على الصعيد الاقتصادي، والحال هذه فإن جريمة اغتيال بلعيد هي في المحصلة النهائية اغتيال لحلم المعارضة اليسارية التي تدافع عن أهداف الثورة التونسية، في بناء الدولة الديمقراطية التعددية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وصون الحرية، باعتبارها مكسبا أساسيا للشعب التونسي. هذا الثالوث: الحرية، والدولة الديمقراطية التعددية، والعدالة الاجتماعية، بات يعتبر كابوسا لحركة النهضة الإسلامية التي لا تؤمن بتحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية.
من هنا جاء الاغتيال السياسي للمعارض اليساري شكري بلعيد كرسالة تنذر باقي أطراف المعارضة التونسية، من أجل إسكات صوتها، وتصفيتها سياسيا، حتى لا تدخل في حلبة المنافسة لحركة النهضة الإسلامية، التي باتت تعاني من تراجع في شعبيتها. فمن خلال الدفاع عن الميلشيات المسلحة" رابطات الدفاع عن الثورة"، وعدم مقاومتها للعنف السياسي الذي تمارسه الجماعات السلفية الجهادية، أثبتت الحكومة المؤقتة أنها حكومة فاشلة، وعاجزة عن قيادة هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها الثورة التونسية وعاجزة أيضا عن بناء الدولة الديمقراطية التعددية، وأصبحت وظيفتها تبرير وتغطية سيادة العنف السياسي، من أجل السيطرة بمفردها على الفضاء العام، أي فضاء الحرية والديمقراطية التعددية. ما تعيشه تونس اليوم، هو غياب هيبة الدولة، وبالتالي غياب الأمن، وحركة النهضة ليست حزباً سياسياً قادرا على تسيير شؤون الدولة، لأنها غير قادرة أن تكون حزبا حاكما، يحقق الأمن للشعب، الأمر الذي يتطلب من قوى المعارضة التونسية ومن المتنورين من حركة النهضة الذين يؤمنون ببناء الدولة الديمقراطية، تشكيل جبهة إنقاذ وطني تكون البديل الحقيقي للترويكا الفاشلة.
*كاتب تونسي