"ثورات" في عروش من شوك- نسيم الخوري
تعيش تونس مثل أنظمة “الربيع العربي” في عروش من شوك . فالاغتيال السياسي الأوّل في تونس للمحامي المعارض شكري بلعيد، الأمين العام لحزب الجبهة الشعبيّة، ثمّ خروج زوجته بسمة خلفاوي رافعةً إشارة النصر، ثمّ اتّهام شقيقه عبد المجيد حركة النهضة وراشد الغنوشي باغتيال أخيه، ثم خروج تظاهرات غاضبة تندد بحركة النهضة الإسلامية الحاكمة، ثم انسحاب المعارضة من المجلس الوطني التأسيسي، والدعوة إلى إضراب عام، ثمّ إعلان رئيس الوزراء حمادي الجبالي اتخاذ قرار بتأليف حكومة وحدة وطنية، يعني ظهور الشوك الخطير . هكذا تبدأ الأزمات الخطيرة التي تهدّد البلاد والأنظمة وهكذا ستستمر . يكفيك أن تغيّر الأسماء والتواريخ لتجد هذا التسلسل في الكثير من الدول والأنظمة القلقة في العالم عبر التاريخ وخصوصاً في بلدان الشرق الأوسط .
لكن لنقل إنّ الخط البياني “الثوري” أو “التغييري” أو الربيعي الذي بدأ صعوداً من رائحة محمّد بوعزيزي المنتحر حرقاً بالبنزين عابقاً برائحة الياسمين في تونس، لم يعطنا صورة استقرارٍ داخلي ولو نسبي مع أنّه يطل على ربيعٍ جديد، فاستمرّ في صعوده جارفاً مصر ثمّ اليمن فليبيا قبل أن يحطّ رحاله فوق ياسمينة دمشق، ثمّ يتراجع هبوطاً بعدما رفعت الأغطية عن حقيقة ثورات الربيع العربي، ليس لأنّ سوريا صمدت بفيض قوّة النظام وحسب ، بل لأنّ مفهوم الدولة العظمى تشظّى مثيراً شهيّات الدول الكبرى التي راحت تستعيد شيئاً من عظمتها عبر الموقد السوري، حتّى إنّ بوتين الرئيس الروسي وضع مفتاح مجلس الأمن في جيبه، وأقفل باب التدخّل الخارجي أمام تغيير وجه الحكم السوري . ولأنّ تجارب الحكم التي قدمتها الجماعات الإسلامية منذ تونس قد ولّدت الإجهاض والخيبات وعدم الاستقرار، فقد ساهم ذلك في تشظيات المعارضة السورية بشكلٍ غير مباشر والالتفاف أكثر حول النظام . وقد ساعدت سوريا المعارضين في بلاد الثورات الأخرى على الإمعان في المعارضة والرفض . وقد اختصر معارض مصري الوضع على صفحة “الفيسبوك” عندما كتب: “أنا مسلم . لست ضدّ الإخوان في المطلق، فهؤلاء اضطهدوا وسجنوا طويلاً، لكنّ أحوال مصر والدنيا والبلاد والعباد تغيّرت كثيراً . كيف يحكموننا وقد كانوا في الأقبية خارج هذه الدنيا التي تغيّرت كثيراً، إلاّ إذا كان المطلوب ذلك؟ فإنني لن أقبل . .” .
تعيش هذه الدول المتحرّكة في عروش من شوك وخصوصاً حكّامها الجدد، وملاعب مفتوحة على المفاوضات الطويلة والجنوح الى الحلول السلمية والدموية والرقص فوق حدّ السيف كونها متغيرات مؤقتة وناتئة في ممرّ دولي تدور حوله وفيه الكثير من الأحداث ومفاوضات النظام الدولي الجديد . وإذ تنضب إمكانيات الحلول السلمية كأولوية في التسويات الدولية، يترك الشرق الأوسط منبعاً “للإرهاب” والاغتيالات وفقاً للتوصيف الأمريكي ومسرحاً ممسوكاً للفوضى . ويستمرّ صعود الحكّام التوفيقيين وفق احترام شروط غير معلنة أولها الحفاظ على مندرجات التسويات المعقودة مع “إسرائيل”، وثانيها إزعاج إيران وسوريا من دون الانزلاق إلى حروب طائفية خطرة، وثالثها إبقاء الأعين ساهرة على 34 بقعة من الجمهوريات الروسيّة وآسيا الوسطى بهدف إيقاظ نبرتها عند الطلب بما يعيق المفاوضات، وهذا ما يبقيهم تحت الإرادات الدولية المتعددة المصالح، تقضّ مضاجعهم من وقت لآخر جماهير الليبراليين والعرب والمسلمين الآخرين كما حصل ويحصل في مصر وتونس .
تلك مظاهر مخيفة تعصف بعواصمنا العربيّة، فلا نجد دروساً واضحة نأخذها من صراع الإيديولوجيات عنوان القرن العشرين أو نحفظها من صراع القوميات عنوان القرن التاسع عشر، بل تطغى على الدنيا تداعيات صدام العظماء الدوليين الذي يقلب الصورة الوهمية التي كانت تطوي الألفية الثانية على السلام وانتفاء التاريخ أو الصدام المستقبلي العنفي والانفعالي الذي يعني صراع الثقافات والديانات . وها نحن مجدداً، في الفترة الدولية الانتقالية الحرجة، نغرق في الدماء التي لم تعرف اليباس في جسد الكوكب، وكأن سقوط الجدران الكثيرة والهياكل والأنظمة واندثار الحرب الباردة واستشراف عالم حر مسائل ما زالت مستعصية . لذا كنا متلقّين لنهايات التاريخ وانتصار الرأسمالية على الكوكب وفق ملامح الإنسان الأمريكي الرقمي الأخير، وبقينا مسكونين، بعدم الانحياز، لرغبة الجمع بين الحضارات والخروج من الثنائية الحادة المدمّرة إلى كوكب التفاهم والحوار بين شعوب مجتمعات العالم . لكننا لم نستطع التملّص من تداعيات فكرة صراع الحضارات السبع الصينية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية واللاتينية الأمريكية والإفريقية التي ستزول لشرعة الأقوى ولن يستمر حتى النهاية منها سوى حضارات ثلاث: الغربية والإسلامية والكونفوشيوسية، مع العلم أن هاجس تحالف الحضارتين الصينية والإسلامية يرعب راسمي مستقبل النظام العالمي الجديد .
يعلك التاريخ السياسي نفسه، وتكثر ردود فعل العرب وانقساماتهم بين المغالين الرافضين لمفهوم العظمة الدولية شرقاً وغرباً سواء في الشكل أم في الجوهر مقابل شركائهم القابلين المندمجين بالأقوياء، وتدفعهم مغالاتهم أحياناً الى تلبية ما يتجاوز طموحات الدول العظمى وأطماعها المتجددة . لكنّ الأغلبية التاريخية فينا تهدر حياتها في التنقيب عن فكر حواري توفيقي بين مفهومي العظمة أو دولها في الغرب والشرق . نعم هدرت لأنّه على الرغم من السوء الذي يحمله الفكر التوفيقي في خلطه للأمور والأفكار وعدم تفاعلها، وعلى الرغم من هذه الأحداث التي تعصف ببلادنا، فإنّ اتّساع أعداد هذه الدول العظمى ومساحاتها الجديدة يبدو يميل إلى منح هذا الفكر التوفيقي حظوظاً في زمن دولي انتقالي .