إسلاميو جهالة التاريخ- سليمان تقى الدين
كلما توغل الإسلاميون في جلب الدين إلى حلبة السياسة كلما أضعفوا صفة القداسة فيه وجعلوه في مصاف الثقافات الدنيوية. في كل مرة يلجأ رجال الدين إلى استخدام سلطة الإكراه تكفيراً أو ردعاً أو فرضاً لما يفتون به يجعلون إرادتهم وسلوكهم وسلطانهم فوق الإيمان الطوعي للبشر ويتحوّلون إلى مجرد «ساسة» يتبعون هواهم و«يشركون» بادعاء احتكارهم للحقيقة المطلقة.
ما قامت دولة دينية في التاريخ إلا وكانت مثل أي دولة عرضة لأطوار التغيير المختلفة وانتهت إلى التفكك نتيجة تناقضاتها. حين ينتقل الدين من موقع التوجيه المعنوي ومن المرجعية الأخلاقية العليا لتهذيب الضمير الإنساني إلى موقع السلطة السياسية يتشظّى فرقاً ومذاهب وجماعات عصبوية ويعد بانبعاث الروح القبلي وآليات اشتغال الصراع القبلي. ليس من دين واحد في العالم، وليس من دين إلا وانقسم على نفسه وتحول إلى طوائف بصورة خاصة لأنه تحول إلى مشروع سلطة سياسية، والسياسة بالمطلق فعل مدني علماني نفعي مجرد من القداسة.
يصعد الإسلام السياسي اليوم إلى السلطة ويمارسها كأداة في إخضاع المجتمع. لا يريد إخضاع المجتمع إلى التديّن لأنه مجتمع متديّن عموماً. يريد إخضاع المجتمع لمنظومة سلوكيات وتصرفات هي في معظمها نتيجة إرث تاريخي تقليدي صنعه ويصنعه البشر أنفسهم. هكذا يصر الإسلاميون في كل مكان على تضمين الدساتير ما يتعدى المبادئ الدينية العامة إلى سلطة الأحكام الفقهية وإلى المذاهب الفقهية وهي نتاج علماء أو أشخاص نعرفهم بشراً بلحمهم ودمهم.
إسلام إيران جعفري اثنا عشري، وإسلام المملكة السعودية حنبلي، وإسلام المملكة المغربية مالكي، وإسلام مصر حنفي، وإسلام الإمارات العربية مالكي، وإسلام اليمن شافعي وزيدي، فعن أي دين يتحدثون؟
لا يواجه الإسلاميون غير الإسلاميين كما يتواجهون في ما بينهم وداخل مذاهبهم وبين جمهورهم ورعاياهم، حتى صارت المذاهب نفسها تيارات ليبرالية وإخوانية وسلفية وتكفيرية وصار علماؤها يفتون بالقتل وهم أشد تأثيراً وخطراً من مدرسة «القاعدة» وما تستخدمه من عنف همجي أكثر انتماءً للجاهلية وما قبل الجاهلية من انتمائها لعصر الإسلام. ولعل هذا النوع من الإسلاميين السلفيين الذين يدّعون العودة إلى السلف الصالح وإلى دولة الإسلام الأول هو الأكثر استخداماً لأبشع أدوات ووسائل القتل التي أنتجها الغرب وحضارة الغرب والصناعة الحديثة والتكنولوجيا.
هؤلاء ليسوا في نظر معظم المسلمين ينتمون إلى الإسلام، وليس من شأننا أن نحكم بينهم. لكننا على الأقل نعرف باليقين أن المسلمين في العالم يعيشون في بيئات وظروف مختلفة ويديرون شؤونهم وفق حاجات العصر. وما يرفضه داعية هنا ويكفّر الآخرين في شأنه، يعتبر نظاماً كاملاً لدولة في مكان آخر. ولا نظن أن الإسلام يمكن تحت أي ظرف (أو الدين عموماً) سلطة مطلقة في يد المفتي أو العالم أو الفقيه أو الداعية بخلاف عشرات ومئات الملايين من المسلمين في العالم.
لذلك تبدو الأصوليات (وهي ليست كذلك في مدلول العبارة الفعلي)، مجرد طفرة إيديولوجية علمانية مثلما هي الصهيونية بالنسبة إلى اليهودية، ومثلما هي الفاشية والنازية بالنسبة للفكرة القومية، ومثلما هي الإلحادية السلبية في سياق الفكر العقلاني.
حتى هذه اللحظة لم ينتج الإسلام السياسي نظاماً في خدمة الإنسان لأنه تجاوز على ما هو مبادئ إسلامية تتلخص في الحرية والعدل والكرامة. فلا نعرف الآن من التجربة الإيرانية إلا أنها شكل من مركزية الدولة السياسية والاقتصادية التي تشبه في كثير من ملامحها التجربة الكورية الشمالية أو الصينية أو حتى الستالينية. ولا نعرف عن تركيا في ظل السلطة الإسلامية إلا كما كانت عليه الاشتراكيات الديموقراطية الإصلاحية من غير أي تعديل جدي في نمط عيش الناس أو تبديل علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية، وفي جميع الأحوال رفع السلطة الإيديولوجية على حيوية وحرية المجتمع في كل مكان. ولا نجد في تونس ومصر إلا هذا الطربوش الإسلاموي السلطوي الذي لا يشبه حتى تجربة محمد علي باشا الإصلاحية في القرن التاسع عشر.
هؤلاء الإسلاميون بكل تجاربهم ومعهم الحركات الجهادية المقاومة لا يملكون إلا ادعاء تهذيب الناس وإلزامهم على سلوكيات هي في معظمها طقوسية لا تمت إلى الروح الإنساني للدين المتمثل في رفض الظلم والفقر والقهر والعبودية.
لكن ما هو مؤكد أن هؤلاء الإسلاميين مجبرون على الخضوع لسلطان العالم من حولهم ولو تجبّروا على شعوبهم. فلم يخرج الحاكم المصري الجديد عن سلطة البنك الدولي وصندوق النقد ولن يبيع الغاز المصري للإسلاميين فقط، ولن يجرؤ على المس بالرأسمالية المصرية باستغلالها وامتيازاتها وفسادها، ولا يستطيع عالم دين أو مرجع أن يفتي بمقاطعة الغرب أو إسرائيل ولا أن يسأل عن مصير الثروات العربية والإسلامية ودورها في المصارف الربوية العالمية، ولا يملك أي مرجع أو قيادي أن يرفض المؤسسات السياسية والاقتصادية المستنسخة من الغرب «الإفرنجي الصليبي». ولا يقوى هؤلاء إلا على محاولة ترهيب وإخضاع المسلمين البسطاء أو الأقليات المنكمشة على نفسها في عالم إسلامي متوتر وموتور.
ولأن الأمور الواقعية كذلك، بَشِّرِ الإسلاميين هؤلاء دعاة العنف والقتل وثقافة الإقصاء والإلغاء بسقوط أخلاقي وسياسي غير بعيد.