علامات على الطريق ...ياسر عرفات و جنون الجغرافيا -د.يحيي رباح
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
shجاء صديقي العزيز حسن الكاشف قادما من الضفة الغربية من رام الله , التي لم يتح لي زيارتها منذ العام 2004 , و هو يحمل لي هدية ثمينة من أخي و صديقي العزيز نبيل عمرو , و هي كتابه الأخير عن الزعيم الخالد الرئيس ياسر عرفات يرحمه الله و عنوانه " ياسر عرفات و جنون الجغرافيا " الذي كتب مقدمته صديقي العزيز الكاتب و الباحث و الروائي فيصل حوارني " و الصادر عن دار الشروق في القاهرة في العام الماضي 2012 , و من المتفق عليه أن يحضر نبيل عمرو خلال أيام إلى غزة ليلتقي مع العديد من أصدقائه و معارفه في حفل يقام خصيصا للتوقيع على هذا الكتاب .
بداية :
كنت أتمنى أن يتم الحديث عن " ديكتاتورية الجغرافيا " لأن الثورة الفلسطينية المعاصرة التي أطلقتها حركة فتح و قادها ياسر عرفات باقتدار كبير و موهبة نادرة كانت تتعرض في كل يومياتها إلى ضغوط هائلة بسب ديكتاتورية الجغرافيا , فحين تكون الثورة في أرض الأخرين , يتحملون تداعياتها القاسية جدا , فمن الطبيعي أن تكون هناك ضغوط صعبة للغاية , و لذلك فقد أطلقنا على ثورتنا اسم " ثورة بساط الريح " و " ثورة المستحيل " بسبب هذه الضغوط الهائلة التي كانت تتفاقم في معظم الأحيان لتصبح حروبا و جبهات دموية ليس فقط مع إسرائيل و لكن مع الأشقاء العرب الذين كانوا يريدون هذه الثورة و لكن بشروطهم , و حين لا يحدث التوافق فإن يوميات الثورة الفلسطينية تتحول غلى تراجيديا مفجعة .
في فصول هذا الكتاب , سجل نبيل عمرو بذكاء شديد لقطات دقيقة و حاسمة من حياة ياسر عرفات , و طريقته في اتخاذ القرارات الصعبة على مستوى الداخل و الخارج , و بعض النظر عن النتائج فإن الثورة الفلسطينية هي إحدى ظواهر العصر الحديث ليس فقط على مستوى المنطقة و إنما على مستوى العالم كله , و معروف أن ثورتنا الفلسطينية انطلقت أساسا و هي على وعي عميق باختلال موازين القوى لصالح أعدائها , و كان يتم التعويض عن ذلك بمستوى الاستقطاب الذي يحدث حول هذه الظاهرة في المنطقة و في العالم , و بمستوى إدارة هذا الصراع في الداخل الفلسطيني المشتت موضوعيا بين ولاءات متعددة و متناقضة , و يجب الاعتراف بشجاعة متناهية أن ياسر عرفات استطاع عبر انهماك خرافي غير مسبوق في قلب الخالة الفلسطينية و العربية و الدولية أن يصنع في بضع سنوات ما يفوق الخيال , لإعادة إحياء قضية دفنها أقوياء العالم و أهالوا عليها التراب , و إعادة إحضار شعب اتفق الكثيرون أنه زائد عن الحاجة , و لا يليق به الغياب من خلال أسماء مزورة تطلق عليه بدلا اسمه الأصلي , أو حلول مزورة تفرض عليه , بل إن كثيرا من المتعاطفين معه يريدونه أن يظل في طور القضية و ليس في طور الدولة .
و بصفتي واحدا من الذين اقتربوا من ياسر عرفات , فإنني أعرف أن الكتابة عنه صعبة للغاية , ظروفه غير العادية فرضت عليه أن يكون هكذا بعضه في الماء و نصفه في اليابسة , معروف و مجهول في أن واحد , و هذا هو تفسيري لوصفه بأنه السهل الممتنع , و لهذا تتنامى الخشية من الكتابة عنه , ففي حياة ياسر عرفات المعقدة كزعيم سياسي لشعب نصفه تحت الاحتلال و نصفه الأخر ألف منفى , و قائدا لقضية تشبه جبل الجليد لا يظهر منها في كل لحظة سوى جزء يسير فوق الماء , بدعيها إلى حد الاغتصاب كل من هب و دب في هذه المنطقة التي تعتبر أكبر مخزن في العالم لبقايا عرقيات و أديان و طوائف , فإن الزعامة ليست شيئا سهلا , بل هي عذاب حقيقي في معظم الأحيان , و أكبر دليل مفجع على ذلك فإن كل أولئك الذين يدعون القضية , و يغتصبونها في أحيان كثيرة , و يتشاركونها أو يصعدون على أشلائها , و قفوا صامتين و متخاذلين و متآمرين و خائفين حين بقي ياسر عرفات وحيدا في " محبسه " ينتظر موته الذي كان يعرف عن يقين أنه ذاهب إليه !!!
أهمية كتاب صديقي العزيز نبيل عمرو عن ياسر عرفات و جنون الجغرافيا ليس في جحيم الوقائع ولا في ندرة التفاصيل , بل لأهمية أن هذه الذاكرة و الشهادات و الانطباعات التي يسلم بعضها من اسقاط الحاضر على الماضي , أن كل يمكن أن يثير جدلا , و إعادة انتباه , و طرح أسئلة جديدة , و هذا ما يستحقه ياسر عرفات لعقود طويلة قادمة .
فشكرا لصديقي العزيز نبيل عمرو على هذا الجهد الرائع , و في انتظار أن يصل إلى غزة لنحتفي به و بكتابه الجديد " ياسر عرفات و جنون الجغرافيا " فهو كتاب يستحق الجهد الذي بذل فيه , و يستحق القراءة باهتمام شديد , فليس أرقى و لا أصعب من أن تسلط ضوء على هذه المسيرة التي رغم جراحها العميقة فإنها سوف تبقى أملا لإحياء هذه الأمة , لأن الأمم بدون قضايا كبيرة مثل قضيتنا الفلسطينية تموت , حتى لو توهمت أنها في قلب الحياة