لك الله يا مصر- عاطف الغمري
هل كانت الصورة غائمة إلى الدرجة التي لا تظهر معها ملامح طريق الخروج من الأزمة في مصر؟
إن المنطق العقلي، وحكمة التاريخ، والحنكة السياسية تقول بغير ذلك . إذاً، فأين المشكلة، وما هو سبيل الخروج منها، وإنقاذ مصر؟
الظاهر للعيان أن الجميع ينسبون أنفسهم إلى الثورة، أو ينسبون الثورة إلى أنفسهم . من هم في الحكم، ومن في المعارضة، والذين يزدحم بهم الشارع . ومادام الأمر كذلك فليكن الرجوع إلى روح الثورة ومطلبها هو نقطة البدء .
إن الوصول إلى الحكم في حد ذاته لا يعطي من يشغله شرعية الانفراد بالتعبير عن الثورة، طالما أن ما أنجزه لم يقترب من مطالبها . فالإنجاز هو صك الشرعية لأي نظام، حسب ظروفه وأهدافه ومطالب شعبه . والمطالب كانت مجسدة بصورة مكثفة في الشعارات التي أعلنها المصريون في الميدان هي: عيش - حرية - عدالة اجتماعية - كرامة إنسانية . فما الذي تم إنجازه من كل هذا؟
لقد راحت المشكلات والمطالب تتراكم من دون حل، يتصدرها الهمّ الاقتصادي، فهل جرى تناوله بالمنطق الذي يقود إلى الإنجاز؟ الذي يتمثل في تشكيل حكومة تحمل الصفتين اللتين تعبران عن المشهد الراهن، وخصوصيته، وهما:
أن تترأس الحكومة شخصية وطنية مستقلة لها تاريخ ومواقف مرتبطة بالحالة الثورية التي تعيشها مصر منذ 25 يناير 2011 . والثانية أن تشغل المناصب الوزارية شخصيات لديها خبرة بالمجالين السياسي والاقتصادي . فالسياسة تسبق الاقتصاد، والفكر السياسي هو المنارة التي تهدي سفينة الاقتصاد وترشدها .
معنى هذا أن من يسمون بالتكنوقراط، ليسوا هم المؤهلين للمرحلة، فهم ليسوا من أصحاب القدرات الخلاقة، خاصة في ظروف مرحلة انتقالية مستمرة إلى الآن . وسينحصر أداؤهم، إما في انتظار التعليمات المطلوب منهم تنفيذها، وإما أنهم يرجعون إلى أفكار قديمة لم تعد تصلح لحالة ما بعد الثورة، أو لعصر تغيرت فيه النظريات السياسية والاقتصادية التقليدية .
تلك هي تركيبة الحكومة الجديدة في مصر - حكومة تكنوقراط - كانت سبباً في تعميق الأزمة، وتجميد التحرك، والعجز عن تحقيق أي إنجاز، خاصة في المجال الاقتصادي . بينما التنمية الاقتصادية، لا تقوم إلا على استراتيجية تنموية، بناء على توافق مجتمعي، يصنعها أصحاب الخبرة، والتخصص، والعلم، والمعرفة، أياً كانت انتماءاتهم السياسية، ومن دون أي إقصاء لأصحاب العقول القادرة على الإبداع والابتكار، في عصر صار النجاح يتحقق فيه، بالبعد عن تدوير الأفكار المرتبكة، إنما على إطلاق الخيال، وابتداع وسائل تتعامل مع الزمن ومتغيراته، وكذلك إلمام من يتصدى لهذه المسؤولية، بالعالم وما يجري فيه من تحولات في الأفكار والنظريات السياسية، وأسباب نجاح الدول الصاعدة في حل المشكلات المزمنة، وتحقيق التقدم والازدهار .
وفوق ذلك، كان الوضع الانتقالي يقتضي تعزيز مؤسسة الرئاسة، بفريق من المفكرين المشهود لهم بالأداء غير التقليدي الذي يعمل العقل، ولا يتقيد بأي قيود حزبية أو أيديولوجية .
هذه المواصفات كلها، كانت من أهم النقاط التي وافق عليها المرشح محمد مرسي، حين التقى قبل إجراء انتخابات الإعادة مع عدد من الشخصيات السياسية النشطة، في فندق “فيرمونت” بالقاهرة، والتزم أمامهم، بتنفيذها حال فوزه . ولما كان عدد الأصوات التي حصل عليها في الجولة الأولى هي خمسة ملايين صوت، فإنه بناء على تعهده هذا، أضيفت إلى رصيده ثمانية ملايين صوت أخرى، لم تكن من أصوات مؤيديه، ليتحقق له الفوز في جولة الإعادة . لكنه بعد الفوز لم ينفذ أي بند من بنود البرنامج الذي التزم به .
وبدأت مرحلة الحكم، في مواجهة الرئيس حقيقة واضحة، وهي مهمة إعادة بناء الدولة التي يلزمها مشروع قومي، وهو ما يعد في فترات التحول وأوقات ما بعد الثورات، قاطرة خروج المجتمع إلى آفاق التقدم، والازدهار، والصحوة المجتمعية . وأن هذا المشروع لا يستطيع القيام به أو حتى صياغته الأولى، فريق بمفرده، لكنه يحتاج إلى تنوع في الرؤى والأفكار، من أصحاب التخصص، والخبرة، والمعرفة، لكي ينهض بجميع أركان وقطاعات المجتمع، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وتعليمية، وصحية، ومعيشية .
وهو المشروع الذي طرحه كتاب، ومفكرون منذ أول أيام الثورة العام ،2011 لكن لم تظهر له أي ملامح بعد انتخاب رئيس مدني، وناله ما نال مطلب تشكيل مجلس الأمن القومي، بجوار الرئيس، وهو إجراء حيوي، حتى تكون لمصر سياسة خارجية واضحة، محددة الملامح، تستطيع بناء على وضوحها، أن تقيم الدول الأخرى مع مصر بعد الثورة، علاقة متينة ومستقرة .
وجدير بالذكر أن إنشاء مجلس أمن قومي، كان في مقدمة المقترحات التي قدمتها اللجنة الاستشارية للجمعية التأسيسية للدستور، لكنها تجاهلته . وهو ما يعكس عدم الإحاطة بشؤون السياسة وإدارة الدول، لدى الأغلبية العظمى من أعضاء الجمعية الذين غلب على اختيارهم عنصر الحزبية . لقد توالت الأخطاء التي عقّدت الأزمة، ابتداء من غرس بذرتها الأولى، في استفتاء 19 مارس/ آذار ،2011 الذي دفع بالموقف نحو الانتخابات أولاً، قبل الدستور . وهو الخطأ الذي جرّ البلاد إلى موجات متلاحقة من الارتباك والتشوش، وغياب الاستقرار والصراعات السياسية التي لا تنتهي .
ثم راحت سلاسل الأخطاء تتوالى، بإدارة مؤسسة الرئاسة، بلا برنامج أو رؤية سياسية واقتصادية محددة، وظهور تضارب بين الرئيس وكبار أنصاره، ما أثار الشكوك فيمن يملك القرار . وبدأ ذلك في إعلان اثنين من كبار قيادات الإخوان عدم التزام مجلس الشورى، بما اتفق عليه في جلسات الحوار التي تمت برعاية الرئاسة، وبالتزام من الرئيس نفسه، بضمان تنفيذ نتائج الحوار!
كل هذا الخلط في مسارات الأحداث، وبالتالي ضعف الثقة بعملية صناعة القرار السياسي كان من نتيجته، أن عم الغضب الشارع الذي بدا أنه العنصر الأقوى في المعادلة السياسية، والذي خرجت جماهيره في أصعب الظروف في مسيرات تطالب باسترجاع الثورة، وإصلاح الأخطاء . وبالرغم من أن المعارضة كانت قد توصلت إلى نوع من التوافق السياسي، تحت مسمى “جبهة الإنقاذ”، فإن الشارع صار يملك قوة دفع تحركه ذاتياً، مهما كانت نداءات الجبهة أو الرئاسة، وأدى التمادي في الخطأ وعدم إصلاح أسبابه، إلى اتساع دائرة الغضب، لكي تظهر فيها جماعات منفلتة من دعاة العنف، وهو أمر مرفوض وطنياً وأخلاقياً .
لقد كان أيضاً من مسببات الغضب العام المتصاعد لدى الثائرين المتظاهرين، ما راح يتكشف من عمليات إقصاء من الوزارات والمؤسسات لأصحاب الكفاءة، والخبرة، والتخصص والتاريخ المهني لكي تحلّ محلهم كوادر إخوانية بلا تاريخ أو فكر خلاق، وهو ما جرى بشكل صارخ ومستفز في الصحف القومية على وجه الخصوص . وغير ذلك الكثير .
إن جذور الأزمة وأصل نشوئها واضح لا غموض فيه، والطريق إلى الخروج منها، إلى الهدوء والاستقرار، ظاهر للعيان، فقط أن تكون مصر أولاً هي الهدف المرتجى، وليس غلبة اعتبارات ذاتية تخص فريقاً قبل أن تخص الوطن . الحل - إذاً - ميسر لو صدقت النوايا، وتغلب العقل والمنطق السليم . ولك الله يا مصر .