"رام الله الشقراء": السَرد المُتعَثر؟!- بسام الكعبي
"رشدي يمتلك قدرة تعبير فريدة في الموضوعات الاشكالية". هذه الجملة اختتمت الصفحة الحادية والعشرين من نص " رام الله الشقراء" للصحافي الزميل عبّاد يحيى. ما يمتلكه رشدي، أحد أبطال النص، لا يمتلكه للأسف النص المفتوح؛ لم يكن السرد فريدا في طرح الموضوعات الإشكالية المهمة التي التقطها بذكاء. لم يكن ممتعا في استقطاب المتابعة وغاب عنه فن العفوية. ابتعد عن قواعد البناء الروائي، وجاء متعثرا بعيدا عن التعليق القصير الذي سجّله الروائي المرموق محمد الأسعد على الغلاف الأخير:"رواية رائعة من النوع الذي يحتفي بشعرية الاشياء لا بالغنائيات الذاهلة، وإن كانت خلفية الكاتب كباحث في علم الإجتماع أساسية هنا، إلا أن السّر يكمن في فن العفوية".
لا أعرفُ كيف صَنّف الكاتب الأسعد جنس "رام الله الشقراء" بأنه عمل روائي، فيما يغيب عن النص معظم عناصر الرواية التي تقع في حدود معرفتي النظرية؛ حبكة البناء، قالب السرد في الهرم المعتدل، التلاعب بأسرار أبطال الرواية لمزيد من الركض خلف كشف نهايات ومصائر أبطال الورق، ليكتمل خط القاعدة الذهبي بخاتمة الهرم المعتدل للسرد الروائي. خطف النص عنوة جنس الرواية، وجاء بطريقة سرد متعثر ومتردد في اعتلاء جدول متدفق يلمس قلب الرواية، ليشتعل الشغف ويتطاير قسرا زمن القراءة في اللهاث خلف السطور.
الرواية عمل خيالي بامتياز، وإن استندت لوقائع يسردها الروائي على لسان أبطاله، وتصويرهم كما يريد متحملا تبعات النقد، بينما يستند الريبورتاج إلى حقائق تتعلق بالأمكنة والأزمنة، والأحداث الفعلية للشخصيات بعيدا عن المتخيّل، ولا يمتلك الصحفي الحق في التلاعب بالحقائق الموضوعية. القاسم المشترك بين الرواية والريبورتاج يكمن في متعة السرد، الذي تعثر للأسف في "رام الله الشقراء".
النص الأول المنشور للكاتب عبّاد، جاء في (126) صفحة من القطع صغير الحجم بتوقيع دار الفيل. السرد يقترب من ريبورتاج صحفي خلَط الوقائع بالخيال بالمواقف، عندما طَرَق مجموعة من الموضوعات الإشكالية: فرنجة رام الله، المؤسسات الأجنبية، المؤسسات الأهلية، التمويل الأجنبي، التطبيع، العلاقات بين شبان فلسطين والأجنبيات، الجنس، الايدز، الموساد، الاحتلال، سلطة أوسلو، تمويل اليسار، الرقص المعاصر وأجندات المراكز الثقافية، وزحمة المطاعم والمقاهي، والكثير من العناوين التي تستحق التوقف مطولا بالمراجعة والنقد. قد يحتاج الأمر إلى أكثر من مراجعة للوقوف على الموضوعات الاشكالية للنص، من أجل التمييز بين الخيال والواقع.
أعترفُ أنّ النص سيكون عرضة للنقد اللاذع من المؤسسات الأهلية غير الحكومية في فلسطين المحتلة، لنقد أسلوبها في التمويل وعبادة البروبوزال: "استمرار عمل المؤسسات القائمة على الدعم الغربي متوقف على قدرتها في استجلاب المشاريع، والكثير من المؤسسات توظف أجانب وأجنبيات ليقوموا بمهمة كتابة البروبوزلات برواتب خيالية..". أتفقُ على نقد دور المؤسسة الأهلية، إلا أن نص عبّاد عرض طبيعة التمويل وهامش استجابة المؤسسة الأهلية وتكديس الخبراء، بصيغة البيان الصحفي الجاف: "تُعقد العديد من الدورات والورش التدريبية موضوعها طرائق وآليات كتابة البروبوزال.."، وتخطف عادة "أدبيات" المؤسسة المحلية مفردات اللغة الخشبية التي صاغ بها عبّاد نقده السردي، وتتمسك بنفس التركيبة الخبرية باعتبارها أسلوباً فذا في التعبير عن مواقفها.
النص يستدرج أيضا نقد المؤسسة الأجنبية التي تنشط دون مراقبة في الوطن المراقب والمحتل، وأتفقُ مع الزميل عبّاد على نقدها، وأختلفُ تماما مع الصديق مهند عبد الحميد الذي كتب مدافعا عن نشاطات المركز الثقافي الفرنسي الألماني باعتباره "داعما لحرية الشعب الفلسطيني، وينظم فعاليات ضد الاحتلال" ! مَنْ يصدق أن المستعمر الكولونيالي في العواصم الغربية يدافع عن حرية الشعب الفلسطيني، في وقت يحرص على تعزيز المؤسسة الأمنية للاحتلال بالسلاح النووي؟.
حقل المؤسسة الأجنبية، والفرنجة، والجمعيات غير الحكومية الفلسطينية التي رصدها نص عبّاد تحتاج إلى مزيد من المراجعة، بهدف رصد محاور النص المتعددة: الخوف من اللون، طبيعة التضامن الأوروبي، تغيّر المشهد في رام الله وامتداد "الأورام المسماة مجمّعات تجارية، هذه الأورام تتخيّر دور السينما لتفتك بها" فيما يتطاول "ورم آخر مكان سينما دنيا ويجهز عليها، رام الله تتنكر لتذاكر السينما وتحتفي بالفيزا كارد".. وغيرها من الموضوعات المثيرة للنقاش في النص.
وفي تغيّر مشهد رام الله التي أدماها النص نقدا، تناول مسيرة استديو "فينوس" لصاحبه الأرمني "أبو عفيف"؛ ظَهر الكاتب حسّاسا تجاه استديو أثري، حَجَز بعدسته البائدة ملامح المواطنين ووثق ابتسامة العرسان وحكاياتهم طوال نصف قرن، وقد تحوّل من متحف للصور العريقة إلى بقالة تسالي ومكسرات. هذه الحسّاسية المشروعة للكاتب لم نجدها في تعاطف الضحية مع مذابح الأرمن وابادة الشعب الأرمني، وقد وردت بطريقة استخفافية بين مزدوجين، وكأن النص لا يصدقها، بل يُغيّب عنها متعمدا أداة الجريمة التركية، التي سطرت ببرود أعصاب منذ قرن، مذبحة دموية بتاريخ المدنيين الأرمن، وأجبرت عائلة "أبو عفيف" اللجوء قسرا إلى فلسطين، لتكون شاهدة على مذابح جديدة بسلاح "المهاجرين الجدد".