شكراً لكل شيء، على كل شيء- احمد دحبور
كان يوم الجمعة الفائت، بالنسبة الي، يوما استثنائيا، اذ قمت بما لا يفعله سواي من حيث كثافة النشاط، حيث احييت في يوم واحد، ندوتين شعريتين، اولاهما كانت ظهرا في جامعة بيرزيت، والثانية كانت مساء في متحف محمود درويش بغزة. وكانت المصادفة وحدها وراء هذا النشاط المزدوج.
الا ان ما يوحد بين الفعاليتين، بالنسبة الي ايضا، هو حظي الطيب مع المنشطين اللذين توليا، مشكورين، مهمة تقديمي الى الجمهور.
فقد ساقني حسن الطالع الى جامعة بيرزيت، حيث قدمني وأدار الحوار بيني وبين الطلاب والطالبات، الدكتور الصديق عبد الكريم ابو خشان، لافاجأ بالمستوى الثقافي المتقدم الذي يتمتع به هذا الجيل من حيث الاحاطة وذكاء الاسئلة، والرغبة الصادقة في المعرفة، والحق انني بدوري قد افدت من هذا اللقاء، وازددت معرفة بجيل كادت تنقطع صلتي به، واذا كان في صلب ثقافتنا ان نطلب العلم ولو في الصين، وان نزداد علما حيث توفر اخذ العلم، فاننا نتعلم بما يعمق معنى الآية الكريمة: وقل رب زدني علماً..
كانت اسئلة الطلبة والطالبات تتصل بالموضوع مباشرة، حول الشعر وكيف يؤتى، والمسافة بين الموهبة والثقافة، والعلاقة بين الذاتي والموضوعي في العملية الشعرية، الى خصوصية التجربة الفلسطينية والتحامها بالمحيط العربي، اسئلة جادة يعرف اصحابها لماذا يطرحونها وكيف ينطلقون منها، وكان الدكتور ابو خشان انموذجا للمثقف المربي الذي يعرف كيف يدير الحوار ويستخلص النتائج. واذا كان الضاغط الوطني حاضرا في اذهاننا جميعا، فانه لم يغب عن هذا اللقاء، حيث سألتني احدى الطالبات عن مغزى اضراب الاسرى الابطال، ومكان هذا الاضراب في سياق المشروع الوطني العام.
كنت أفترض - وكذلك القائمون على اللقاء - انه سيأخذ ساعة من الزمان، ولكن الوقت تمادى وأخذنا حتى بلغ ثلاثا من الساعات الكثيفة المفرحة او اكثر.. فشكرا لجامعة بيرزيت، ولبيرزيت، وللدكتور الصديق، وللطلبة والطالبات، والشكر موصول للشهيد الغالي كمال ناصر الذي تحمل قاعة اللقاء اسمه.. وقد اعربت عن سعادتي بأن كنا جميعا في ضيافة كمال ناصر، الذي اسهم في رعايتي عندما كان مسؤول الاعلام الموحد، وها هو ذا يرعى لقائي الحميم بطلاب بيرزيت وطالباتها..
اما اللقاء الثاني الذي رعته مدينة رام الله، فقد كان من المصادفات الطيبة كذلك، ان الذي قدمني الى الجمهور هو د. ايهاب بسيسو، هذا الشاب الذي عرفته فتى قبل سنوات، لتجري مياه كثيرة تحت الجسور منذ ذلك العهد، فقد نضجت التجربة ووجدت نفسي امام محاور ذكي مثقف سريع البديهة.. واعترف بانني تحدثت في هذا اللقاء كما لم افعل من قبل الا قليلا، بفضل نباهة د. ايهاب واحاطته بعالمي الثقافي والشخصي الحميم، حتى انه استخرج مني ما اود البوح به من اسراري وذاكرتي.. واذا كان بعض علماء علم الجمال يقولون ان الثقافة، في احد تعريفاتها الممكنة هي لحظة ذكاء، فقد نجح ايهاب في اقتياد الذكاء الثقافي الى ذلك اللقاء، حتى ليمكن الدعوة بمشروعية الى ان تطالب الحوار دوما، بمحاور مطلع مثابر من عيار هذا الدكتور الشاب.. فالثقافة امر جليل يستحق العناء والبحث والتدبير، وانه لأمر مفرح حقا ان يتمتع المشهد الثقافي باستاذين مختصين من عيار ابي خشان وبسيسو وان تطل روح شاعرنا الكبير محمود درويش على هذا اللقاء، في متحف يحمل اسمه عن جدارة.. ولا عجب.. فهذه فلسطين ما عداها.. وهي عقدة مواصلات معرفية تتطلب المزيد من الاعداد والتوسع والاطلاع، بحيث وجدتني في آخرة النهار استحضر قول الشاعر الكبير ت. س. اليوت: رب انني لست مستحقاً..
ولكن من مزايا فلسطين انها تعطي بلا حساب.. فشكرا لها، وشكرا لله الذي جعلني فلسطينيا انتمي الى هذا الوطن الجميل، واردد من القلب: شكرا لكل شيء، على كل شيء..