محمود درويش .. من سرير الدوري إلى رحيل المتّعجل
وزعته الرياح بين المنافي الباردة ، والجدران البعيدة ، وتربته
"البروة" تلبس روحه حيث حلّ ، وباركته تلال الجليل ، بدفء ما حمّلته من
عواطف ، لحنين موجع ، فحمل وطنه بما احتوى ، وما نأى ، وصاغه على وترين
ونشيد ، في مديح أوراق الزيتون ، منذ "الزنبقات السود" الى " سجل أنا عربي "
، سفر الشاعر في الستينات وبداية التّورق ليصدح الوارقون بدواته ،
ويحتاروا بالعاشق .
محمود درويش ، عفواً .."عاشق من فلسطين" كما
عرّف نفسه في البدايات الثانية ، لعيونها شوكة في القلب ، مرورا بـ"أحن
إلى خبز أمي" لينتهي به الشوق الى "صلاة أخيرة " ، عاشق يدرب القلوب على
أواني الحبّ ، ويطوف معهم حول وطنٍ مسحوب من الوريد ، فما كان له منفى على
خير ، ولا كان له وطن غير العاشقة " فلسطين .
محمود
درويش ، في " آخر الليل" ينزف في النكبة " تحت الشبابيك العتيقة" ليطرز
بالدمع حنين الحنون الى بئر معطلة ، ويقفز فوق مآذن القدس كسنونوة بكر وضعت
أحلامها تحت سروة في باحة الأمل ، ليقول بعلو نبض المتيم :
"أموت اشتياقاً..
أموت احتراقاً
وشنقاً أموت
وذبحاً أموت
ولكنني لا أقول
مضى حبنا، وأنقضى
حبنا لا يموت"
توالت
عليه هجرات الاشتياق في كبد لا ينادمه نصر مؤجل ، ليكتب "الأزهار بالدم" ،
ويسرج خيل الحزن بعد نكبة أوجعت شدائد الهمم ، ومنها يداوي الأمس القبيح ،
بما فقده من وطن بأكمله ، على مذبح اليأس من ورد يزرعه على مقابر القدماء ،
وهنا تجرحه بيروت بأظافرها الشهية ، ويسجل ما يعيشه عن بعد في أغنيات الى
الوطن" ، ليشحذ النخوة بعد ارتخاء بليد ، في غضب وشجب ، ونداءات متوالية ،
على دالية العروبة ، وحجر بشرر لنار قد تعيد الوطن المسلوب ، وهيهات يا
عاشق أن تحرك في القبور غير خطواتك الناعسة ، ويتعبه الصراخ في أودية خاوية
، ليعلن عن "عصافيره التي تموت في الجليل" ويسبح على جدار شاهق وعنيد ،
حتى يصله الدليل الى "حبيبته التي نهضت من نومها " ويعلق لها حلماً على
مشجب الغد ، ويقرأ في جبينها وعداً وقبلة.
محمود درويش ..
الجريح المدجج بأعشاب الصبّار العتيق ، يبيع الصبر في أسواق متجولة ، ليقول
حيواته " أحبك أو لا أحبك " في "مزامير" السموات والاسماك والنهر بين
ضفتين ، ويكّذب نفيه عن الحبّ لها ، ويحبها أكثر في مناديل" الـ "عائد الى
يافا" ويربط حصانه قرب "سرحان الذي يشرب القهوة في الكفاتيريا" متقمصاً
روحه التي تطير فوق المطر والرصاص ، وحقائب السفر ، حتى تدبّ أنفاسه على
ناصية " محاولة رقم 7" ويجرب مرة أخرى حبّه السرمدي في رنين المنافي ،
ليعلن صموده المجازي في "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" ليزف هودجاً في "
أعراس" السبعينيات من القرن الماضي ، فيمشي والصديق ، والصاحب والمحتل الى
الذكريات العنيدة ، نحو "أحمد الزعتر" فينام في أحمد العربي ، والنشيد
والقذيفة ، كما تصحو في عليائه الشعرية مناديات الصباح والإصباح ، وتأخذه
من جديد الى "قصيدة الوطن" ، فيتعبه مشوار الابواب المؤصدة ، والأسوار
العالية ، فيأخذ من عاجل استراحة في "حالات وفواصل".
محمود درويش
.. الخارج من طعنات مدفونة ، في خنوع من خذلوه ووأدوا العودة ، بتحويل
الخيمة الى قبة ومخيم باهت ، يدخل في فحولةٍ شعرية غير مسبوقة ، ليعلن سقوط
القناع في "مديح الظل العالي " ويكشف عن صبرا وشاتيلا وأنهاراً من النيات
السيئة في محراب الدفاع عن النفاق ، ولا يكفكف دمع الفلسطيني بنفير كاذب ،
بل يدله على المكان الذي "استسلمت فيه ليلى لزوجها "، ويقول لقائد المسيرة
بعد رحيل بحري وبري من بيروت :
لنعيد للروح المشرّد أوّله
ماذا تريد ، وأنت سيد روحنا
يا سيد الكينونة المتحوّلة ؟
يا سيد الجمرة
يا سيد الشّعلة
ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة.
محمود
درويش .. المجهش في دمعه ، المنتصر لغده ، يحرث البحر بعد بيروت ليزرع
الأمل ، في موانيء الغرباء جداً ، حيث سجل لبعيده الوطن "حصار لمدائح
البحر" في سمرقند ويدخل مع المتنبي مصر ، ويطير الى باريس حيث يذكر شهيداً ،
أنيقاً على قلق ،ـ ويفتح روما بلقاء أخير لشهيد أخر ، كان له صديقاً
وحبيباً، حتى يرقبّ "تأملاته السريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر
الأبيض المتوسط" فكأنها استراحة شاعر من دخان المدافع ، ومشاهد الدمار ،
وفيها يغزل " يطير الحمام " عن الحب والحاسة السادسة ، وعاشقين في ظلام ،
ليعيد البوصلة أخرى الى الوطن في "سنة أخرى .. فقط " يطلب فيها أن يعيشها
في وطنه ولو تصيبه نهاية متعجلة برصاصة قاتلة ، وهذا الحلم لم يتحقق بكل
كابوسه بعد ، فيرجع الخطى الى بيروت في قصيدة كاملة ، حتى خالت عليه أشباح
التعب فقال عن بيروت أنها "الخيمة الأخيرة" ليشد رحلته الشعرية في "هي
أغنية .. هي أغنية " ودليله المتنبي وكأن الريح تحته ، وهنا يعود الى
إصراره وعناده وتمسكه بالثابت الغير متحول "فلسطين" مكافحاً برد البواخر
والأمواج ، نافراً من مقاهي المدن الكبيرة ، والجلسات الرخيمة ، والهروب من
رصاصة العاشقة ، يعود لكي يغني لغبار القوافل ويعزف منفرداً على خريف كله
اسئلة ، ويصحو مجدداً الى" عناوينه الشخصية الأربعة ، في السجن والقطار
وغرفة العناية الفائقة والفندق ، حتى يرتدي يأسه ويعترف أنه "العاشق سيء
الحظ" ويصل به المآل الاضطراري الى الانتحار المجازي والانصراف عن الاختلاط
، فيكون الخريف في مطر سريع ، وقلبٌ هارب من حبيبته ، ونوافذ لا تفتح
اشرعتها على وطن ، فيكتب الوصية ، فلا يجد بعد كل هذا غير " من فضة الموت
الذي لا موت فيه " يزحف على هواجره باكياً وفاتراً من عرب لم يسعفوا "ورده
الأقل " ليداوي ضعفه بعنفوان النبلاء ، وفرسان المدن العتيقة ، ويتحدى عدوه
، عدو أحلامه فيقول :
على هذه الأرض ما يستحق الحياة :على هذه
الأرض سيدة الأرض ، أم البديات أم النهايات . كانت تسمى فلسطين ، صارت تسمى
فلسطين،سيدتي : أستحقّ لأنك سيدتي ، أستحقّ الحياة.
محمود درويش
.. المصير الذي قضاه في البعيد ، ومانام قلبه عنه ، يشغله ما يرى في "أرى
ما أريد" وكأنها اقتربت أجراس العودة الى العاشقة ، فيدندن حول الحقول ،
والقمر ، واللازوارد ، والحجر المنتفض يرسم طريقه الى غزة و أريحا ، فيجدد
حوار أبيه في "ربّ الأيائل يا أبي ..ربّها" ووصل الاشارة عنده يصرخ في
إيوان حروف العطف والمكان ، ويقرها"هدنة مع المغول أمام غابة السنديان"
ويخرج من ضجر الفكرة الى "جملة موسيقية" ، يؤبّن فيها العاشقين ، وحارس
الحديقة ، ليعود الى القديم في نظمه الشعري بـ "مأساة النرجس.. ملهاة
الفضة" يفجر أسئلته العجوز عند كل كمين يصادفه ، حتى يستعين بعد تيه بـ
"الهدهد" عن الرياح والأمطار الموحشة ، يسأله عن الزيت والسنابل ، والقمر
الجميل والصفصاف الذي حرس الخيمة قرب مسك الليل ، ويعترف بحزن لفلسطين بأن
جمالها أغرى الجنود الغرباء فعبدوها ، وحرموا الموانئ من مراكب العائدين
إليها ، فيكون لوتده الشعري "أحد عشر كوكباً" فيطرز اللغة في الحب والرحيل
الكبير وجيتارة الوتر للماء ، وليل الغريبة ، لتغلبه الكمنجات فيبكي
والغجرية في الأندلس ، ليدخل حيزاً من التيه المفاجيء في "خطبة الهندي
الأحمر " ليحاور السماء والبحر والهاوية والغرباء ، ويخرج سليمان من قبره
ليشهد على "شولميت" وسوسن الحنين ، في اكتشاف أكبر مؤامرة شعرية على الله ،
ليموت بعدها الغزاة بسلام مع الميتين ، فيصحو وحده على "حجر كنعانيّ في
البحر الميت" ليقترب أكثر من الحجل ، وتقترب بين يديه مفردات الكلام عن
"سوفوكليس الذي اختاره" لخريف يكرر نفسه في السنة الصعبة ، ليلقي في نهاية
الرحلة سلاماً على أرض كنعان وأرض الغزالة والأرجوان ، وكأن ريتا لم تغادره
فكانت في الشتاء اللازمة لبرده ، والنخيل ، حتى تدغدغه بغداد الحزينة
فيذكر شاعرها بـ "فرس للغريب " فيقول له من بعد فاجعة :
فلا تكترث بالتماثيل
سوف تطرز بنت عراقية ثوبها
بأول زهرة لوز
وتكتب أول حرف من اسمك
على طرف السهم فوق اسمها
في مهب العراق.
محمود
درويش الكهل في عمره ، المتجدد في شعره ، يمتطي نيلاً ويسرج فراتاً ويطرز
غرناطة بالذهب الذهني ، ويبكي على تونس الخضراء بوداع مفاجيء ، لا ينسى
دمشق الحمام ، فينام بين شجرتي ياسمين ، ويشرب من عمان ماء العافية ، ليدخل
رام الله بعد عمر تركه في حقائب سفره ، وما أبقى له غير ذكريات ودفاتر
شعرية للمطابع البعيدة ، فكان سؤاله الصارخ " لماذا تركت الحصان وحيداً "
دون شارة استفهام ، ويلحق بـ "سرير الغريبة " فيكون الحنين الى الشباب من
بعد أن وصل الى الوطن ، الذي انتظره حتى ضاعت العافية فيمد عماد جنازته في "
جدارية" متعبة وحزينه ، وحوارية مع الموت ، الذي يطلب منه أن يؤجل اصطحابه
، فيقنعه ، ويعود الى "حالة حصار" و "لا تعتذر عما فعلت" ليعيش مع
الراحلين في ذكرياتهم ، الى أن يستقر به الحال عند " كزهر اللوز أو أبعد"
أناشيد معجونة بالحداثة أو مرمية على التجريب في ولع إثبات الذات الشعرية ،
ليقول النقاد عنه أن الشاعر المتجدد ، فيكون "في حضرة الغياب" وجع شعري
أخر في نهايات العمر المتفتح بالأمنيات ، الى أن يرهقه عبء الذكريات
فيتركها للنسيان ، وحيرة العائد ، فما كان بعدها غير أن ينام والى الأبد
"أثر الفراشة".
محمود درويش .. صانع الأمل ، شاعر لا يموت شعرياً
، ولكن أجنحته باقية كما يوم ميلاده الذي أصبح يوماً وطنياً للثقافة "
يغير علينا بكل أحلامه فما يكون لأمثالنا غير أن نفتح وسائدنا لنحشوها بما
حصدته بيادر العاشق عن فلسطين العاشقة .