مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

محمود درويش .. من سرير الدوري إلى رحيل المتّعجل


وزعته الرياح بين المنافي الباردة ، والجدران البعيدة ، وتربته "البروة" تلبس روحه حيث حلّ ، وباركته تلال الجليل ، بدفء ما حمّلته من عواطف ، لحنين موجع ، فحمل وطنه بما احتوى ، وما نأى ، وصاغه على وترين ونشيد ، في مديح أوراق الزيتون ، منذ "الزنبقات السود" الى " سجل أنا عربي " ، سفر الشاعر في الستينات وبداية التّورق ليصدح الوارقون بدواته ، ويحتاروا بالعاشق .
محمود درويش ، عفواً .."عاشق من فلسطين" كما عرّف نفسه في البدايات الثانية ، لعيونها شوكة في القلب ، مرورا  بـ"أحن إلى خبز أمي" لينتهي به الشوق الى "صلاة أخيرة " ، عاشق يدرب القلوب على أواني الحبّ ، ويطوف معهم حول وطنٍ مسحوب من الوريد ، فما كان له منفى على خير ، ولا كان له وطن غير العاشقة " فلسطين .
 
محمود درويش ، في " آخر الليل" ينزف في النكبة " تحت الشبابيك العتيقة" ليطرز بالدمع حنين الحنون الى بئر معطلة ، ويقفز فوق مآذن القدس كسنونوة بكر وضعت أحلامها تحت سروة في باحة الأمل ، ليقول بعلو نبض المتيم :
 
"أموت اشتياقاً..
 أموت احتراقاً
وشنقاً أموت
وذبحاً أموت
ولكنني لا أقول
مضى حبنا، وأنقضى
 
حبنا لا يموت"

توالت عليه هجرات الاشتياق في كبد لا ينادمه نصر مؤجل ، ليكتب "الأزهار بالدم" ، ويسرج خيل الحزن بعد نكبة أوجعت شدائد الهمم ، ومنها يداوي الأمس القبيح ، بما فقده من وطن بأكمله ، على مذبح اليأس من ورد يزرعه على مقابر القدماء ، وهنا تجرحه بيروت بأظافرها الشهية ، ويسجل ما يعيشه عن بعد في أغنيات الى الوطن" ، ليشحذ النخوة بعد ارتخاء بليد ، في غضب وشجب ، ونداءات متوالية ، على دالية العروبة ، وحجر بشرر لنار قد تعيد الوطن المسلوب ، وهيهات يا عاشق أن تحرك في القبور غير خطواتك الناعسة ، ويتعبه الصراخ في أودية خاوية ، ليعلن عن "عصافيره التي تموت في الجليل" ويسبح على جدار شاهق وعنيد ، حتى يصله الدليل الى "حبيبته التي نهضت من نومها " ويعلق لها حلماً على مشجب الغد ، ويقرأ في جبينها وعداً وقبلة. 
محمود درويش .. الجريح المدجج بأعشاب الصبّار العتيق ، يبيع الصبر في أسواق متجولة ، ليقول حيواته " أحبك أو لا أحبك " في "مزامير" السموات والاسماك والنهر بين ضفتين ، ويكّذب نفيه عن الحبّ لها ، ويحبها أكثر في مناديل" الـ "عائد الى يافا" ويربط حصانه قرب "سرحان الذي يشرب القهوة في الكفاتيريا" متقمصاً روحه التي تطير فوق المطر والرصاص ، وحقائب السفر ، حتى تدبّ أنفاسه على ناصية " محاولة رقم 7" ويجرب مرة أخرى حبّه السرمدي في رنين المنافي ، ليعلن صموده المجازي في "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"  ليزف هودجاً في " أعراس" السبعينيات من القرن الماضي ، فيمشي والصديق ، والصاحب والمحتل الى الذكريات العنيدة ، نحو "أحمد الزعتر"  فينام في أحمد العربي ، والنشيد والقذيفة ، كما تصحو في عليائه الشعرية مناديات الصباح والإصباح ، وتأخذه من جديد الى "قصيدة الوطن" ، فيتعبه مشوار الابواب المؤصدة ، والأسوار العالية ، فيأخذ من عاجل استراحة في "حالات وفواصل".
محمود درويش .. الخارج من طعنات مدفونة ، في خنوع من خذلوه ووأدوا العودة ، بتحويل الخيمة الى قبة ومخيم باهت ، يدخل في فحولةٍ شعرية غير مسبوقة ، ليعلن سقوط القناع في "مديح الظل العالي " ويكشف عن صبرا وشاتيلا وأنهاراً من النيات السيئة في محراب الدفاع عن النفاق ، ولا يكفكف دمع الفلسطيني بنفير كاذب ، بل يدله على المكان الذي "استسلمت فيه ليلى لزوجها "، ويقول لقائد المسيرة بعد رحيل بحري وبري من بيروت :
 
لنعيد للروح المشرّد أوّله
ماذا تريد ، وأنت سيد روحنا
يا سيد الكينونة المتحوّلة ؟
يا سيد الجمرة
يا سيد الشّعلة
ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة.
 
محمود درويش .. المجهش في دمعه ، المنتصر لغده ، يحرث البحر بعد بيروت ليزرع الأمل ، في موانيء الغرباء جداً ، حيث سجل لبعيده الوطن "حصار لمدائح البحر" في سمرقند ويدخل مع المتنبي مصر ، ويطير الى باريس حيث يذكر شهيداً ، أنيقاً على قلق ،ـ ويفتح روما بلقاء أخير لشهيد أخر ، كان له صديقاً وحبيباً، حتى يرقبّ "تأملاته السريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط" فكأنها استراحة شاعر من دخان المدافع ، ومشاهد الدمار ، وفيها يغزل " يطير الحمام " عن الحب والحاسة السادسة ، وعاشقين في ظلام ، ليعيد البوصلة أخرى الى الوطن في "سنة أخرى .. فقط " يطلب فيها أن يعيشها في وطنه ولو تصيبه نهاية متعجلة برصاصة قاتلة ، وهذا الحلم لم يتحقق بكل كابوسه بعد ، فيرجع الخطى الى بيروت في قصيدة كاملة ، حتى خالت عليه أشباح التعب فقال عن بيروت أنها "الخيمة الأخيرة" ليشد رحلته الشعرية في "هي أغنية .. هي أغنية " ودليله المتنبي وكأن الريح تحته ، وهنا يعود الى إصراره وعناده وتمسكه بالثابت الغير متحول "فلسطين" مكافحاً برد البواخر والأمواج ، نافراً من مقاهي المدن الكبيرة ، والجلسات الرخيمة ، والهروب من رصاصة العاشقة ، يعود لكي يغني لغبار القوافل ويعزف منفرداً على خريف كله اسئلة ، ويصحو مجدداً الى" عناوينه الشخصية الأربعة ، في السجن والقطار وغرفة العناية الفائقة والفندق ، حتى يرتدي يأسه ويعترف أنه "العاشق سيء الحظ" ويصل به المآل الاضطراري الى الانتحار المجازي والانصراف عن الاختلاط ، فيكون الخريف في مطر سريع ، وقلبٌ هارب من حبيبته ، ونوافذ لا تفتح اشرعتها على وطن ، فيكتب الوصية ، فلا يجد بعد كل هذا غير " من فضة الموت الذي لا موت فيه " يزحف على هواجره باكياً وفاتراً من عرب لم يسعفوا "ورده الأقل " ليداوي ضعفه بعنفوان النبلاء ، وفرسان المدن العتيقة ، ويتحدى عدوه ، عدو أحلامه فيقول :
على هذه الأرض ما يستحق الحياة :على هذه الأرض سيدة الأرض ، أم البديات أم النهايات . كانت تسمى فلسطين ، صارت تسمى فلسطين،سيدتي : أستحقّ لأنك سيدتي ، أستحقّ الحياة.
محمود درويش .. المصير الذي قضاه في البعيد ، ومانام قلبه عنه ، يشغله ما يرى في "أرى ما أريد" وكأنها اقتربت أجراس العودة الى العاشقة ، فيدندن حول الحقول ، والقمر ، واللازوارد ، والحجر المنتفض يرسم طريقه الى غزة و أريحا ، فيجدد حوار أبيه في "ربّ الأيائل يا أبي ..ربّها" ووصل الاشارة عنده يصرخ في إيوان حروف العطف والمكان ، ويقرها"هدنة مع المغول أمام غابة السنديان"  ويخرج من ضجر الفكرة الى "جملة موسيقية" ،  يؤبّن فيها العاشقين ، وحارس الحديقة ، ليعود الى القديم في نظمه الشعري بـ "مأساة النرجس.. ملهاة الفضة" يفجر أسئلته العجوز عند كل كمين يصادفه ، حتى يستعين بعد تيه بـ "الهدهد" عن الرياح والأمطار الموحشة ، يسأله عن الزيت والسنابل ، والقمر الجميل والصفصاف الذي حرس الخيمة قرب مسك الليل ، ويعترف بحزن لفلسطين بأن جمالها أغرى الجنود الغرباء فعبدوها ، وحرموا الموانئ من مراكب العائدين إليها ، فيكون لوتده الشعري "أحد عشر كوكباً" فيطرز اللغة في الحب والرحيل الكبير وجيتارة الوتر للماء ، وليل الغريبة ، لتغلبه الكمنجات فيبكي والغجرية في الأندلس ، ليدخل حيزاً من التيه المفاجيء في "خطبة الهندي الأحمر " ليحاور السماء والبحر والهاوية والغرباء ، ويخرج سليمان من قبره ليشهد على "شولميت" وسوسن الحنين ، في اكتشاف أكبر مؤامرة شعرية على الله ، ليموت بعدها الغزاة بسلام مع الميتين ، فيصحو وحده على "حجر كنعانيّ في البحر الميت" ليقترب أكثر من الحجل ، وتقترب بين يديه مفردات الكلام عن "سوفوكليس الذي اختاره" لخريف يكرر نفسه في السنة الصعبة ، ليلقي في نهاية الرحلة سلاماً على أرض كنعان وأرض الغزالة والأرجوان ، وكأن ريتا لم تغادره فكانت في الشتاء اللازمة لبرده ، والنخيل ، حتى تدغدغه بغداد الحزينة فيذكر شاعرها بـ "فرس للغريب " فيقول له من بعد فاجعة :
 
فلا تكترث بالتماثيل
سوف تطرز بنت عراقية ثوبها
بأول زهرة لوز
وتكتب أول حرف من اسمك
على طرف السهم فوق اسمها
في مهب العراق.
 
محمود درويش الكهل في عمره ، المتجدد في شعره ، يمتطي نيلاً ويسرج فراتاً ويطرز غرناطة بالذهب الذهني ، ويبكي على تونس الخضراء بوداع مفاجيء ، لا ينسى دمشق الحمام ، فينام بين شجرتي ياسمين ، ويشرب من عمان ماء العافية ، ليدخل رام الله بعد عمر تركه في حقائب سفره ، وما أبقى له غير ذكريات ودفاتر شعرية للمطابع البعيدة ، فكان سؤاله الصارخ " لماذا تركت الحصان وحيداً " دون شارة استفهام ، ويلحق بـ "سرير الغريبة " فيكون الحنين الى الشباب من بعد أن وصل الى الوطن ، الذي انتظره حتى ضاعت العافية فيمد عماد جنازته في " جدارية" متعبة وحزينه ، وحوارية مع الموت ، الذي يطلب منه أن يؤجل اصطحابه ، فيقنعه ، ويعود الى "حالة حصار" و "لا تعتذر عما فعلت" ليعيش مع الراحلين في ذكرياتهم ، الى أن يستقر به الحال عند " كزهر اللوز أو أبعد" أناشيد معجونة بالحداثة أو مرمية على التجريب في ولع إثبات الذات الشعرية ، ليقول النقاد عنه أن الشاعر المتجدد ، فيكون "في حضرة الغياب" وجع شعري أخر في نهايات العمر المتفتح بالأمنيات ، الى أن يرهقه عبء الذكريات فيتركها للنسيان ، وحيرة العائد ، فما كان بعدها غير أن ينام والى الأبد "أثر الفراشة".
محمود درويش .. صانع الأمل ، شاعر لا يموت شعرياً ، ولكن أجنحته باقية كما يوم ميلاده الذي أصبح يوماً وطنياً للثقافة " يغير علينا بكل أحلامه فما يكون لأمثالنا غير أن نفتح وسائدنا لنحشوها بما حصدته بيادر العاشق عن فلسطين العاشقة .


ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024