قصيدة عبد الرحيم محمود- احمد دحبور
في الذكرى المئوية لميلاد عبد الرحيم محمود، شاعر فلسطين وفارسها وشهيدها، يبدو من الطبيعي ان تتصدر المشهد قصيدته الخالدة «الشهيد»، بمطلعها الذي لا تزال العرب تردده منذ بضع وستين سنة، وينشده طلاب الحرية الى اليوم: سأحمل روحي على راحتي..
والحق انني كنت اتساءل وأنا في مقتبل العمر عن السر الذي جعل من تلك القصيدة نشيدا معنويا، لا يوازيه في الانتشار الا قصيدة «ارادة الحياة»، للشاعر التونسي ابي القاسم الشابي:
اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر
اما المعاني النبيلة في القصيدتين، فهي حاضرة في الخطاب العربي، وأما السلاسة والتدفق فيهما، فمما يتعلمه التلاميذ على مقاعد الدراسة الاولى، ويبقى السؤال المشروع: لماذا هذه الخطوة في الذاكرة العربية لهذا الشعر؟
يحضرني، لهذه المناسبة، استاذي في المرحلة الابتدائية علي صبحية، مد الله في عمره، فقد قال لي يوما: عندما تكبر ستفهم وتتفهم لماذا يحب الناس قصيدة الشهيد، وسترى ان فيها اسراراً لا يؤتاها الا من يدقق في الكلام القوي الجميل..
والآن أعود الى صرخة عبد الرحيم محمود بمطلعها المجلجل:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردئ
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
فيأخذني هذا الإقدام على الفكرة، بلا تمهيد او مقدمات، على ما للردى الوارد في قافية البيت الاول من سطوة ومهابة، وما في حيوية البيت الثاني من حسم وقوة يجمعان الوضوح الى الايحاء، ويتركان في صدر المتلقي ذلك الصدى الفريد الذي يجعل من هذا الكلام شعرا عابرا للزمن..
إلا أنني لا اكتفي بهذا الأثر الطيب، بل اتوقف عند سحر البيان في الانتقال من الروح الى الراحة، فاذا بالراحة تتجاوز اليد لتصبح معادلا موضوعيا للإرادة، يدعمها الايقاع الداخلي الذي يكرر وقع الـ «ها» في «بها» كما في المهاوي، فليست هذه مجرد قافية داخلية بقدر ما هي حركة تمنح الشعر حيوية يحمل الصورة الى المعنى او العكس.. اما البيت الثاني فيبلغ الطباق فيه ذروة الكمال.
وتأخذني المقابلة بين الفعل تسر وطباقه تغيظ، وبين الصديق والعدا، من غير ان اتجاوز الطباق الاساس بين «حياة» و«ممات».. ومع ذلك لا اكتفي من هذه الجرعة الجمالية، بل اذهب الى ما تتركه في النفس من جرس موسيقي، وبلاغة رشيقة، وسرعة في ايصال الفكرة..
ولم يكن هذان البيتان مجرد مطلع احتفالي لقصيدة حماسية، اذ ان المتابعة ستكشف عن موقف وجودي يجمع الثورة الى فكرة العداء:
لعمرك اني ارى مصرعي ولكن اغذ اليه الخطا
فهو يرى استشهاده بلا مواربة، ويسرع الى تلك اللحظة برشاقة من يستحث خطاه الى الوصول، حتى اذا وصل الى بيت القصيد، الذي كان يعتبره معلمونا الاوائل درسا في الفداء، وقعت على ما هو ابلغ واعمق من المقاربة اللغوية:
ونفس الشهيد لها غايتان ورود المنايا ونيل المنى
فليس الأمر مجرد جناس ناقص بين المنايا والمنى، بقدر ما هو مطابقة جمالية بين الفكرة والغاية، وهي ما سيدعمها الشاعر بالرؤيا النفاذة عندما يرسم صورته المدماة بعد استشهاده فاذا هو يصبح جزءا من طبيعة فلسطين وورودها وعطرها وريحها المنتشرة:
كسا دمه الارض بالارجوان
واثقل بالعطر ريح الصبا
ويسبق الشاعر ذلك المشهد التراجيدي، فبعد ان يعلنه موقفا وجوديا، يكرز به مثل حكمة تتناقلها الأجيال، وكأنه قد استشهد قبل الشهادة، فهو يشير الى ما يحدث وكأنه وقع فعلا:
لعمرك هذا ممات الرجال
فمن شاء موتا شريفا فذا
وتضج القصيدة بما بات معروفا للجميع، فقد خرج ابن عنبتا، عبد الرحيم محمود الشاب الذي يحمل في اهابه بضعا وثلاثين سنة، وامتشق بندقيته، اجال نظره في فضاء فلسطين فأسعده ان هذه الارض المقدسة تستحق ان يستشهد المرء من أجلها، فهذه فلسطين لا سواها، وحتى تليق بسحرها وقداستها، لا بد من افتدائها والتصدي لمغتصبيها.. وهكذا انبرى هذا الشاعر الشاب للحظة الممارسة التي تطابق بين القول والفعل، فكان قوله فعلا.. وأي فعل!!
ترى من هو المثقف العضوي الذي بشر به انطونيو غرامشي ان لم يكن الانموذج الدال عليه هو هذا الشاعر؟
ويشير النقاد المختصون الى ان هذا الشاعر الفدائي الممارس، كان مسحورا بمقصورة المتنبي الشهيرة، لا سيما بيت القصيد فيها:
وأني وفيت، وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
فلم يرددها كلاما وحسب، واذا كان المتنبي ابا الطيب بلا ولد يحمل هذا الاسم، بل اسم ابن المتنبي هو محسد، بتشديد السين وفتحها، فان عبد الرحيم هو ابو الطيب فعلا، وقد قاتل في معركة الشجرة وهو يدرك انه لن يرى الطيب وأمه، أليس هو القائل:
ارى مصرعي دون حقي الشريف
ودون بلادي هو المبتغى
وقد نال شهيد الشجرة وفلسطين مبتغاه، فاستشهد وسلاحه في يده، وشعره في قلوب ابناء الشعب من يوم ان صدح به، حتى يوم الناس هذا.. وها هو في عيد مئويته حاضر حاضر، بل انه ملء فلسطين، وصدى صوته تردده الريح في كل مكان.