ما أقساك يا سجن غزة ...- عبد الناصر فروانة
ما أقساك يا سجن وما أصعب تلك الأيام والليالي التي قضيناها بين جدرانك ، خرجنا منك ولم تخرج منا ، نعيش في مكان آخر بعيد عنك ، لكنك تأبى أن تفارقنا لنعيش فينا .
فلا تقل لي أني صرت حراً ، فالسجن باق فينا ، ونحن لا زلنا نعيش فيه ، وبالرغم من مرور سنوات وعقود على تحررنا ، فإننا لا زلنا أسرى ، نحيا السجن ويحيا السجن بداخلنا .. فما أقساك يا سجن .
كلما مررت بجانب " السرايا " وسط مدينة غزة ، تذكرت ذاك المبنى الرهيب الذي سميّ بـ "سجن غزة المركزي " .
وكلما تذكرت ذاك السجن اضطررت قسراً استحضار تجربتي الخاصة خلال تلك الشهور والسنوات المريرة التي قضيتها بين جدرانه القذرة و زنازينه الضيقة وغرفه المعتمة التي ضمت خلال عقود الظلم عشرات الآلاف من المناضلين والمقاومين للاحتلال .
وتجربتي الشخصية تتشابك مع التجربة الجماعية ، وهي ليست بمعزل عن تجارب الآلاف من أبناء شعبي الذين مروا بتجارب مماثلة ، بل وأكثر قسوة وأكبر ألما ووجعاً .
وحينما أستحضر تلك التجارب أشعر بالألم والمرارة لما تعرضنا له من صنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي ، ومن الحرمان والقهر والمعاملة القاسية واللا إنسانية ، وينمو لدىّ شعور الانتقام ، ليس من المحققين والعاملين في ذاك السجن فحسب ، وإنما ممن أعطوهم الأوامر ومنحوهم الشرعية وكفلوا لهم الحماية والحصانة القضائية .
وما يؤلمني أكثر أن السجون وان تعددت أسمائها واختلفت مواقعها الجغرافية ( لا ) تزال قائمة ، وأن الاعتقالات مستمرة ، وأن ما نستحضره اليوم وبعد ربع قرن وما يزيد على حدوثه ، ( لا ) يزال قائما في تلك السجون وأن المحقق والمُعَذِب حر وطليق دون محاسبة ، وهذا ما يزيدنا ألماً .
وكلما استحضرت تجربتي ، ازددت إصرارا على العمل والمضي قدما صوب الدفاع عن الأسرى وحقوقهم الأساسية وفي مقدمتها حقهم بالحرية ، والعودة إلى بيوتهم سيرا على الأقدام والعيش الكريم في كنف أسرهم وعائلاتهم وبين أبناء شعبهم .
" السرايا " أو " سجن غزة المركزي " يقع وسط مدينة غزة ، وأنشأ في الثلاثينات في عهد الانتداب البريطاني كمقر للقيادة العسكرية البريطانية ، وبعد عام 1948 ، ووضع قطاع غزة تحت وصاية الإدارة المصرية تم استخدامه كمجمع للدوائر الحكومية، و خصص جزء من المبنى كسجن للقاطنين في قطاع غزة .
وبعد هزيمة عام 1967 تم استخدامه كسجن لأبناء القطاع ومن ثم تم توسيعه وتشييد أقسام جديدة فيه حتى أصبح يتشكل من خمسة أقسام هي ( أ، ب ، ج ، هـ ، ز ) ، بالإضافة إلى مجموعة من الزنازين في الطابق الأرضي ، وقسم التحقيق في الدور الثاني أطلق عليه الفلسطينيون " المسلخ "لشدة وقسوة التحقيق فيه .
وهو بالمناسبة واحد من عشرات السجون والمعتقلات المنتشرة على طول الوطن وعرضه ، حيث لم تعد هناك بقعة في فلسطين إلا وأن أقيم عليها سجن أو معتقل أو مركز توقيف .
وكثيرون – وأنا واحد منهم - هم الذين طالبوا بالحفاظ على ذاك المبنى كشاهد على جرائم الاحتلال بحق آلاف المعتقلين من الفلسطينيين ، لا سيما وأن السجون كافة متشابهة من حيث الظروف والمعاملة وتحكمها عقلية واحدة وان تعددت أسمائها وأماكن إقامتها الجغرافية .
وناشدنا مراراً بتحويله إلى تراث أو متحف أو " بازار " يؤمه كل من هو معني بالاطلاع على معاناة الأسرى وظروف احتجازهم ، فهو خير شاهد وأفضل دليل وصورة .
ولكن للأسف وبدلاً من العمل بهذا الاتجاه والاستجابة إلى مناشداتنا نحو تحقيق الهدف المنشود ، تحول في زمن السلطة الفلسطينية بعدما تسلمته منتصف عام 1994 في إطار اتفاقية أوسلو وانسحاب قوات الاحتلال من غزة ، إلى سجن فلسطيني زج به مئات المواطنين ..!! وبعض ممن كان بالأمس أسيراً فيه ، تحول إلى سجان ..
والأدهى أنه بعدما سيطرت حركة " حماس " عسكرياً على قطاع غزة ، أبقت عليه الحكومة المقالة بغزة كسجن للفلسطينيين زجت فيه هي الأخرى مئات المواطنين ..!!.
وخلال الحرب الإسرائيلية على غزة أواخر عام 2008 ، تعرض لقصف شديد من قبل الطائرات الإسرائيلية فهدم بالكامل وتحول إلى ركام ، ولم يبقَ منه سوى جزء ضئيل وضئيل جداً جداً .
هذا الجزء هو ما تبحث عن توثيقه اليوم جمعية واعد للأسرى والمحررين بغزة ، بمحاولتها الجادة نحو نبش الذاكرة الفلسطينية وتحويله إلى " متحف " ومركز لفعاليات يوم الأسير الفلسطيني والذي يصادف في السابع عشر من نيسان / ابريل من كل عام .
بالأمس ذهبت لزيارته وتجولت داخل الجزء المتبقي ، فكان عبارة عن مجموعة من الزنازين أبرزها " زنازين العشرينات " .
كانت لحظات صعبة أثارت بداخلي مشاعر الألم والحزن وأعادتني للوراء سنوات طويلة ، فهمست في أذن صديق لي كان يرافقني في جولتي وقلت له " تكاد الدموع أن تذرف من شدة التأثر وقسوة الألم ومرارة الذكريات
مررت على الزنازين كافة ، وتوقفت عند تلك التي احتجزت فيها ، أستحضر تلك الأيام والشهور العصيبة ، وبحثت على جدرانها لعلني أجد ما كنت قد كتبته في حينها ، وتوقفت كثيرا أمام زنزانة ( 26 ) تلك الزنزانة الصغيرة التي لم تتجاوز مساحتها ( متر X متر ونصف ) وتذكرت كيف مكثت فيها عدة أيام مع أربعة آخرين
واستحضرت الأسير " عطية الزعانين " الذي استشهد بتاريخ 13 نوفمبر 1990 في الزنزانة رقم " 21 " ، واستوقفني " الدرج " أو " السلم " الذي كان يربط الزنازين بـ " قسم التحقيق " وكيف كانوا يجروننا دون مراعاة لانسانيتنا ، وتخيلت صور المحققين بأسمائهم المستعارة ( أبو ربيع وأبو النمر وأبو عدنان وأبو حبيب وأبو داوود ) معلقة على جدران الزنازين يبتسمون من شدة معاناتنا ، ويتلذذون بتعذيبنا ويستمتعون بمعاناتنا في ما نُطلق عليه " المسلخ " ، ذاك المكان الذي شهدت فيه استشهاد الأسير " خالد الشيخ علي " بتاريخ 12 ديسمبر 1989 .
ووقفت أمام المبنى من الناحية الغربية وتخيلت الجزء المهدوم وتذكرت الزنزانة ( 14 ) التي استشهد بداخلها الأسير " جمال أبو شرخ " في الثالث من ديسمبر عام 1989 ، حينما كنت في الزنزانة المقابلة له والتي تحمل الرقم ( 12 ) .
فترات قاسية وربما تكون أقل قسوة وألما بكثير من تجارب الآخرين ، بل وأجزم بأن هناك آلاف التجارب أكثر ألما وقسوة من تلك التي مررت بها ، وكنت أتمنى فيما لو كانت باقي أجزاء السجن قائمة وموجودة ، ليتحول السجن الى متحف وشاهد على جرائم الاحتلال بحق معتقلينا ، كما هي تجربة " حزب الله " مع معتقل الخيام .
وكنت قد زرت معتقل الخيام أواخر العام 2005 فاندهشت من حجم الاهتمام بـ " المعتقل " وتوثيق التجربة والإبقاء عليه كما هو وتحويله لـ " بازار " ، حقا كان شيء رائع .
وقبل أيام كنت في باريس ضمن وفد شارك في فعاليات لنصرة الأسرى وزرت المكان الذي كان مقام عليه سجن " الباستيل " قبل أن يهدم ، ويقام مكانه ميدان الحرية ليبقى رمزا لكل الأحرار .
واليوم أسجل جُل احترامي وتقديري لـ " جمعية واعد " التي حافظت على هذا الشاهد قبل أن يُهدم ويُدفن بين الركام .
وشكرا لها لأنها بادرت وتحركت ونبشت الذاكرة نحو توثيق التجربة من خلال لقاءاتها المسجلة صوت وصورة مع من مروا بالتجربة في ذاك السجن ، وهي خطوة رائعة وفي الاتجاه الصحيح حتى وان كانت متأخرة .
و السؤال هل نحن أمام تجربة جديدة تتمثل بالمحافظة على الجزء المتبقي من " سجن غزة " كـ " تراث " كما فعل " حزب الله " مع معتقل الخيام ؟ أم سنهدم ما تبقى ونقيم مكانه ميدان " الحرية " كما فعلت فرنسا مع سجن " الباستيل ؟
أم لا هذا ولا ذاك وأن الأمر مجرد حدث عابر سينتهي بانتهاء فعاليات يوم الأسير الفلسطيني ؟؟
والأيام القادمة هي وحدها الكفيلة بالإجابة ..
فما أقساك يا سجن غزة ... وما أروعك يا " واعد " ..