عائشة الفلسطينية - عيسى قراقع
في عيد الأم، الواحد والعشرون من آذار، وقفت عائشة الفلسطينية أمام نافذة الذاكرة، اقتربت وابتعدت، اغتربت واتحدت، سال حليبها في مساء الليل، فسمع الجميع صوت طفل يولد بعد قليل.
عائشة ولدت بين نكبتين وحربين، وتحت عباد الشمس بين طلقتين وشتائين، تواصل الحياة،مرتفعات ومنخفضات، نهار وليل على الجانبين، بابور كاز وخيمة، جنود ومدرسة للبنين، ملجأ في صخرة، حبات زيت من وكالة الغوث والاكتفاء بالظلال.
عائشة المرأة: التحية من أي زهرة تضحك، المنتبهة ككل النساء إلى شجرة الكرز وهي تنمو في أقاليم الجسد، سعيدة اليوم لأن ولدها لم يمت، ولم تستطع الحرب أن تحول الخيمة إلى بيت، سعيدة لأن المكان ظل هو المكان، ولأن الموت السياسي لم ينتصر على الخيال.
عائشة ينظر قلبها للأعلى، محمولة بالأمل، وتقول للجدل في الصراع: الأنثى هي الأنثى، الأرض وأكثر من الحياة ، كل سحابة هي أنثى، ومن كل أنثى زخة مطر، الأنثى المتكررة المتولدة، الأم والأب، البصر والبصيرة، فلا احد يفكر أن يخون الغدير، أو يتطاول على الجرح البليغ ولا يأكل من تفاحة الجليل.
عائشة موعد حياة متكاملة ، منذ أن كانت فلسطين كروية الشكل ، أو منبسطة ، أو متصاعدة، حلوة أو مالحة، هائجة أو هادئة ،فهي تواصل السير واضحة: القدس في الأغنية ، رضي الوالدين في الدعاء: الغد أمامك يا ابني، فلا تنظر إلى الوراء كثيرا، إلا عندما يشتد عودك وتصير قادرا على تعديل المصائر.
عائشة الوصية:ابن بيتك يا ولدي خاليا من حطامك الأول حتى يبقى المكان مكانه،واسترجع أسماء النبات والجماد والشهداء، وإحمل الصخرة عني ولا تدخل القمر في المحاق، احتضن حلمك واطل على الزيتون حتى لا يلتقي المغلوب بالمنهوب وينتصر المستوطنون والعسكر.
عائشة بطاقة روحية أمدت جسمها بقوة الشهية، لا تتعب، لا تشكو، كانت فلاحة في المزارع الخضراء وصارت لاجئة ، فطوعت الشقاء ورفضت الاهانة وقدست الكرامة، هي أمك بجمالها وشعرها الطويل، بيديها المشققتين، ولسانها وأحلامها المزدحمة بالتفاصيل.
وقفت عائشة على باب السجن، رأت ولدها ابن نارها المقدسة كالظل خلف الزجاج الفاصل، لا صوت له، مقيد هذا الحبيب، جاف يطلب الماء، لا نهد هنا يمشي في السحاب ليروي الصحراء، فترضعه بابتسامها، يقوم ويجري في ممر السجن كنهر يفيض بالأحياء.
تقول للسجان:انا ولدته في البداية لكنه هو من واصل الولادة، ولا زلت انتظره عائدا من رحلة الأسطورة ، أضمه ويضمني حتى تفيق الزلازل في قلبي ويشفى من جروح الغياب، لازلت أطعمه وأمسح الغبار عن كتبه، ولا زلت أراقبه كيف يعود إلى طفولته وينجو من غزو النسيان.
عائشة الفلسطينية، الأسيرة، المربوطة على سرير المشفى خلال الولادة، مخاض في الحديد والشرايين، وهناك ولدت الخبيزة والميرمية ، وهناك تستفيق حيفا والخليل في صباح الغد، نساء كالفراشات ، يحلقن أعلى من الأبراج، رذاذ ضوء، حنين يصحو يرسل ذكرياته إلى إعجاز الأنثى النازلة من الغيب بلا حراس في الآيات.
عائشة الفلسطينية، لا تحتاج إلى مأوى للحماية، ولا إلى نص في قانون العقوبات ينصفها، فهي الكل المكتمل في الرجال، هي التي وصلت الحياة أولا، وهي أبو الرجال، والوعي يحتاج للتأمل عندما تصقل عائشة وجه الريح، فترشد الناس إلى ثدييها والى يدها تهز السرير.
*وزير شؤون الأسرى والمحررين