محمد عساف: أذهب بعيداً حيث يحلق البلبل- خالد جمعة
غزة مدينة حزينة، لا يختلف إثنان على ذلك، وحزينة كلمة لها معنى محدد، ليس من ضمن هذا المعنى أنها مدينة ضعيفة أو ذات اتجاه واحد في الحياة، هي ابنة الحياة بكل معانيها، وحزنها هو ذلك الشعور المؤقت الذي تمر به المدن عادة حين تصيبها الجراح وتكشط جلدها الحرب فتدفن أبناءها الجميلين وتصلي عليهم في الفجر كل يوم.
دائماً أحببت أن يعرف العالم الوجهَ الآخر لغزة الحزينة، أردت دائماً أن أقول إن سكان هذه المدينة ليسوا جميعاً حاملي سلاح ويمشون على الحدود لكي يطلقوا النار أو ليستشهدوا، غزة تعيش، تصطاد السمك وتقيم الأفراح وتستحم في البحر وتزرع الورود والقمح والبرتقال، غزة أيضاً تغني، وتستطيع أن تجعل العالم كله يركع على ركبتيه طرباً إذا أرادت ذلك.
عرفت محمد عساف منذ كان في الثامنة، في برنامج للمواهب كان يقدمه تلفزيون فلسطين، وساهم فنانون فلسطينيون مثل وائل اليازجي وجمال النجار وياسر عمر في صقله وتنمية موهبته، بالطبع عدا عن أبيه الذي لم يستطع الغناء في بيروت بسبب الحرب الأهلية في السبعينيات، فوضع حلمه على أكتاف محمد، فذهب به إلى أبعد ما يكون.
تمنيت منذ اللحظة الأولى التي قفز فيها محمد عساف من فوق جدار الأراب أيدول، أن يفوز باللقب، ليس لأنني فلسطيني يشجع ابن بلاده، فقد شارك فنانون فلسطينيون قبل ذلك في برامج مشابهة، لكني لم أشعر تجاههم بالفخر كما أشعر تجاه صوت محمد عساف، ببساطة لأنه صوت الحياة التي تحمل غزة من أنقاض موتها المؤقت إلى سماء الفن العالية، محمد ينقذ غزة من نشرة الأخبار، ويذهب بها إلى مكان يليق بها، محمد عساف يثبت ما قلته قديماً، أن الأغنية رفيقة الرصاصة، تلزمنا تماماً كما يلزمنا السلاح، فالروح المعبأة بالأغاني أكثر قدرة على الصمود من تلك التي لا تشم رائحة الموسيقى في الموسيقى.
محمد عساف بهذا الصوت الذي يلملم العائلة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وحتى في أمريكا اللاتينية التي يحصل منها محمد على أكبر نسبة تصويت، جعل الفلسطينيين فخورين بواحد من أبنائهم، جعلني شخصياً أحس أن غزة ما زالت بخير، وأن جميع الأشياء التي تبدو صعبة ومستحيلة باتت ممكنة.
غزة تبنت محمد، فتبناها بصوته القوي الجميل الذي لا يخطئ لا حين يغني عن رأس جبل أو حين يغني في وادٍ ذي زرع، أو حتى على ظهر سفينة على البحر الغزي المحاصر والمنكوب، محاصرٌ من أعدائه، ومنكوب من أصدقائه حين يضعونه في نشرة الأخبار، فالبحر في نشرات الأخبار هو مكان يطلق منه الأعداء النار على الساحل، أما أغنيات البحر والصيادين فلا أحد يذكرها، وجاء محمد عساف ليجعلنا نتذكر، نحن من نسينا، أو ليجعلنا نعرف، نحن من جهلنا، أن الحياة في غزة ما زالت ممكنة، وأن الأصوات التي تملأ الفضاء العربي بالأغنيات ليست قادمة من أماكن من الخيال، فغزة ليست خيالاً ومحمد عساف ابن غزة فهو بالتالي ليس خيالاً.
بهذا الصوت، سوف يصعد محمد ويحمل فلسطين معه، يحملها كما حملها الشهداء من قبله إلى الخلود، فليس من المفروض على كل فلسطيني أن يموت لكي يصنع تاريخاً أو نصراً صغيراً هنا أو هناك، محمد عساف، هذا الولد الطيب الخجول، يقول لنا ذلك، ويقول أيضاً إنه قادر بصوته أن يخرج فلسطين من حصارها إلى رحابة الفضاء.
للصدق، على من يقرأ ما أكتب أن يفرق بين كوني أرى ما سيصل إليه محمد عساف بجمال صوته، وبين كوني أحمّله ما لا يطيق، فأنا لا أحمّل محمد مسؤولية شيء، ولا أطالبه بشيء، فكل ما قلته عنه سيحدث تلقائياً، لسبب بسيط، أن محمد من بسطاء غزة الذين عاشوا حروبها وحصارها وأصيافها وشتاءاتها، عاشوا بحرها ورملها وصبايا مدارسها، عاشوا أشجار برتقالها وأسواقها القديمة، منها وفيها ولها غنى، ومنها وفيها ولها انتمى، ومنها وفيها ولها سيبقى، فمن يستطيع أن يفصل الصوت عن الحنجرة؟ ومن يستطيع أن يفصل محمد عن غزته؟ عن فلسطينه؟ ومن يجرؤ أن يقول إن مشروع محمد عساف هو مشروع مناقض لأي مشروع آخر مثل سامر العيساوي مثلاً، ففي اعتقادي أن سامر العيساوي نفسه حين يستمع إلى محمد عساف فسوف يرتفع رأسه أيضاً ويزداد قدرة على قدرته ونبلاً على نبله، فسامر العيساوي ومحمد عساف في صف واحد ولا حق لأحد أن يجبرنا على المقارنة بين اثنين كل منهما يعزز الآخر.
عزيزي محمد عساف: أذهب بعيداً حيث يحلق البلبل، وليس النسر، أريد أن أرى بلبلاً يطير ويغرد حراً ومعافى، واضحاً وبسيطاً وكبيراً في الوقت ذاته، دعنا نستمع إلى فلسطين في صوتك، ودعنا نرى صوتك في فلسطين، ليس هذا فقط، دعنا نرى حبيباتنا وأمهاتنا وورداتنا وشهداءنا أيضاً، فمن يجرؤ أن يفصل الوردة عن البندقية عن الأغنية عن الشهيد، هو بالتأكيد ما زال يحتاج إلى دروس تعلمه كيف يعيش.