أبو علي ... وداعاً- عيسى عبد الحفيظ
غادرنا المناضل أبو علي شاهين، أخيراً ترجل الفارس الفتحاوي من على صهوة النضال، أبو علي الذي نشأ مقاتلاً بالفطرة رافضاً للأمر الواقع مهما كانت حدة التحديات، انتمى الى حركة فتح مبكراً في الستينيات وساهم بشكل فعال في بناء الخلايا الأولى المقاتلة داخل فلسطين، ثم اعادة بنائها بعد هزيمة حزيران 1967.
اعتقل مبكراً ليخوض تجربة السجن لأكثر من عقد ونصف العقد حينما كانت ظروف الاعتقال أصعب وأكثرة قسوة، لكنه صمد وتصدى وأعطى مثالاً يحتذى في شخصية الفدائي بالأثرة، والشجاعة، والقدرة على التحمل، ما جعله قائداً حقيقياً لكل الأسرى الفلسطينيين ومرجعاً لكل حركات العصيان ورفض القوانين العنصرية الجائرة التي كانت تهدف الى تحطيم نفسية الفدائي قبل تحطيم عظامه بل والجرأة على تحديها ورفض الانصياع لمزاجية السجان السادية.
أبو علي شاهين وبكل بساطة عاش من أجل القضية ورسخ كل حياته ووقته لها. لا يفكر الا بفلسطين حتى وهو يقرأ عن تجارب الثورات الأخرى التي كان على اطلاع تام بتفاصيلها وأسماء قادتها والمراحل التي مرت بها، كان يسعى للاستفادة منها قدر المستطاع ليطبق استنتاجاته على الثورة الفلسطينية ويستخلص منها العبر التي قد تكون عاملاً اضافياً في تحقيق أهداف الحركة.
كان يرى فلسطين بعيون فتح، ويرى ان فتح صمام الأمان وضمانة النصر، ورغم كل تحمسه لفتح لم يكن يدير ظهره لأي جهة أو تنظيم أو فصيل فلسطيني يرى فيه خطوة الى الأمام بشرط ألا يكون هذا الطرف مرتبطاً بجهة خارجية عربية كانت أو اسلامية أو عالمية. كان حساساً من حشر أي طرف أنفه في الشأن الفلسطيني الداخلي، وكان قاسياً في أحكامه على أي فلسطيني المنشأ يبيع ولاءه لجهة غير فلسطينية تحت أي شعار كان حتى لو كان يدعو لتحرير الأقصى.
أبو علي شاهين مدرسة فتحاوية مستقلة حتى عن التجاذبات الداخلية والصراعات والتناقضات التي تبرز بين الفينة والأخرى، يقول كلمته ولا يخشى لومة لائم جهاراً، فقد كانت ثقته بنفسه عالية الى درجة البوح بالموقف وبالنقد الجارح أحياناً وتسمية الأشياء بمسمياتها علناً حتى في أجهزة الاعلام.
لم يكترث كثيراً للشكليات ولم يتطلع الى مناصب. كان يؤمن بالتاريخ النضالي فقط. اذكر انه في احد اللقاءات التي كان ينظمها اسبوعياً الشهيد صخر حبش في دار الكرامة، وصل أبو علي متأخراً بعض الشيء، فأخلى عدة أشخاص مواقعهم له ليجلس لكنه أشار الى مقعد شاب قائلاً انه يريد أن يجلس هناك، وعند انتهاء الجلسة سألته لماذا اختار أن يجلس في ذلك المكان بالذات، فكان جوابه لأنه مناضل..
كان اذا شكا أحدهم له وكان واثقاً من صدق روايته يتبناها على الفور وكأنها قضيته الشخصية وكان على استعداد تام للمناطحة والقتال اذا استدعى الأمر حتى يقوم من لزم عليهم الأمر بانصاف المشتكي أو المتظلم.
وعلى الرغم من قبوله بتحمل مسؤولية وزير التموين الا انه بقي ذاك الفدائي البسيط المتواضع الوفي لأصدقائه ولكل المعوزين فكان يتجاوز الشكليات الادارية ويتصرف كما يمليه عليه ضميره وحسه الوطني ونبضه النضالي.
اذكر عندما طلبت منه مساعدة غذائية لأسر مستورة فاستفسرني عن العدد وكان مئة فقال: كثير، فخفضت العدد الى خمسين لكنه قال ان هذا كثيرا أيضاً فغضبت وقلت ان لا داعي لكل هذا الأمر. فما كان منه الا ان ابتسم قائلاً: أنا لا أصرف لك الا لعدد لا يقل عن الألف، وهكذا كان.
هذا هو أبوعلي شاهين، فدائي قولاً وفعلاً وممارسة. صلب وقاس عند الحق مما يجعل الذين لا يعرفونه جيداً يعتقدون انه جلف الطباع ويتجاوز حدود اللياقة الدبلوماسية، لكنه كان يعرف جيداً من يخاطب وبأي طريقة يخاطبه حيث كان مقياسه الأوحد هو حكم أبو علي شاهين على مدى نضالية المخاطب، فهو رقيق ومهذب الى درجة تثير الاعجاب اذا ما خاطب أو استقبل مناضلاً حتى لو كان رث الثياب ولا يشغل أي منصب، وكان في نفس الوقت شرساً وهجومياً بل وعدائياً أمام المتسلقين وفارغي السجل النضالي مهما ارتفعت مناصبهم الادارية أو مواقعهم الوظيفية.
كان يعمل بعقلية أمنية تعتمد المعلومات الموثقة والتاريخية حتى الذين اختلفوا معه أو اختلف معهم لم يملكوا الا ابداء الاحترام والتقدير اللازمين للشهيد أبو علي، سواء داخل الحركة أو على مستوى فصائل م.ت.ف والقوى الوطنية والاسلامية.
أبو علي شاهين، يا صقراً يقف شامخاً على كتف فتح.
أبو علي، يا أنشودة فلسطينية غنى على ايقاعها المناضلون وهم ينتظرون بزوغ الشمس.
أبو علي، أيها الصديق الوفي الذي لم يتخل عن اصدقائه يوماً، ايها المثال في الوفاء.
أبو علي، يا زهرة أينعت في السجون وزرعت أملاً في الحياة.
أبو علي، أيها القابض على الجمر في الزمن الصعب.
أبو علي، علمتنا الكثير في الحياة وسنتعلم أكثر عند رحيلك.
أبو علي، أيها الفتحاوي الذي ما اهتزت قناعته بحتمية النصر والعودة... وداعاً.