جدلية محمد عساف- ظافر الريماوي- سجن عسقلان
أمام واقع النكسة والهزيمة التي نحيا ذكراها ال (46) في هذه الأيام.. كنا أحوج ما يكون لإبراز الصوت الفلسطيني.. في مواجهة وحشية وعنصرية الرواية الإسرائيلية وكأننا قطيع بشري منزوع الجذور.. لا يتقن فن الحياة والإبداع.. فكانت الكلمة تحاور الرصاصة والثورة يسيران معا.. هذا يخدم ذاك ويؤصل له.. وكانت للأغنية أحيانا مفاعيل أقوى من دوي المدافع ووقع الحسام على المهند.. فكتب محمود درويش وماجد أبو شرار وغنى مارسيل خليفة وأبو عرب.. حينها فقط تكاملت الأدوار وأثبتنا أن فلسطين أرض لشعب عريق يستحق الحرية والحياة.
نعم إخوتي وبعد كثير من التردد قررت الكتابة.. إذ لكل مقام مقال..ولأننا الأسرى لم نفقد إنسانيتنا ولم نتقن فن العزلة والوحدة بعد.. ولم نفقد قدرتنا على صناعة الأمل ورسم الابتسامة الحالمة في غد مشرق..ولأن واقع الاعتقال لم ولن يثنينا عن التحليق بعيدا عن الزنزانة وقضبان الحديد.. ولأننا وحسب اعتقادي الأكثر إدراكا ومعرفة عبر التجربة بقيمة الأشياء.. وبرغم ما نعانيه وبرغم امتعاضنا من حالة الفتور والتقصير الشعبي والرسمي اتجاه قضيتنا واتجاه حريتنا.. أتساءل.. من قال إن اشتباكنا مع هذا المحتل ومحاصرته يقتصر على الكفاح المسلح! فسِرُ نضالنا الوطني يكمن في تفوقه القيمي والأخلاقي.. وفي أبعاده التحررية والإنسانية.. وفي القدرة على المزاوجة بين الأشكال المتعددة والمختلفة.. في تضميد الجراح وصناعة الفرح على وقع خطى تشييع الشهداء وزغاريد الأعراس.. إذ بنا ندفع أعمارنا ودماءنا فداء وعطاء.. ونمضي مثل الشهداء نحو الحياة باسمين بعيدا عن اليأس والإحباط لان فيه الاندثار والغياب.. وهذا لن يكون أبدا..
الأخ محمد عساف... كن فلسطينيا تكون.. وأخالك كذلك.. منتميا للوطن والفكرة.. محبا للحياة والحرية.. عاشقا للفرح والمرأة..الأم والزوجة والمعشوقة..متحسسا لدبيب أوجاع المحاصرين.. فأنت منهم وإليهم.. متلمسا نهش أوجاع المكلومين فأنت فيهم وتحيا حياتهم.. حينها ستصل الفكرة حتما للأصم ليأتي إليك بأّذنيه مصغيا وبقلبه طائعا.. وسيعلو منك الصوت بما يليق ليبقى وشما معلما في القلوب والعقول وذاكرتنا الجمعية..حتى ينام القمر في غمد السماء....
رغم الحرمان وغربة الاعتقال صرنا وإياك رفاقا طيبين على موعد أسبوعي نتهيأ لك مثل المحبين.. إذ صار ليوم الجمعة معنا ورونقا مختلفا.. على أنغام صوتك نلتم.. تمر صور الذكرى ولا أجمل عالعرائس مغسلة بماء الصباح.. تمر صور المحبوبات أمام ناظرينا معشوقات ولا أجمل.. وترخي جدائلها صور الماضي ولحظات الحرية.. حنينا يلبس جدران الزنزانة والمشبعة بالرطوبة وطعم الموت.. فيتراجع القيد ويخر راكعا وتصير الزنزانة جنة.. كلما صدحت بعذب الصوت والنشيد.. تغني لفلسطيننا أكثر.. فتنتعش في أسمال الروح نفحات الأمل.. حياة تسري دما في العروق..
أخي محمد.. لا قيمة للوقت في السجن ولا فرق بين الأيام.. كلها تتشابه تماما.. لكننا بك ومع صوتك صرنا ننظم ساعة السجن وفسحة الأمل.. فلا مقياس للزمن.. معك يبدو طويلا كالعادة..نتسمر أمام التلفاز مأخوذين نحو عوالم أخرى.. نحو ضفاف العشق وأغادير الحرية.. تنساب في دواخلنا الحياة فنعشق حريتنا ونعود لإنسانيتنا أكثر..فـأكثر.. خاصة أمام ما تتعرض له من محاولات استلاب إنساني.. خبرته عصور الكهوف..
منك الصوت وتمثيل فلسطين الحق.. ومنا الدعم والتأييد..فالصوت منك يأخذنا نحو البعيد البعيد.. نحو التفاصيل الصغيرة.. نحو الوطن ودفء ترابه.. نسير من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان.. مشبعين بذكرى الأهل وأحضان الدار.. بذكرى الصبا وميادين المواجهة.. حيث كنا والموت كالظل والأصل.. نسير معا متجاورين ملتصقين..
لمن أحب عساف أو انتقده نقول: طبيعي الاختلاف.. لكن المغالاة فيه شذوذ.. إذن ماذا بعد! متى كانت الثورة بندقية وكفى.. وإلا صار المناضل قاتل..!! ألم تكن بداية الصراع حول الرواية والكلمة..!! ألم يترك لنا وفينا محمود درويش إرثا وتأثيرا على امتداد المعمورة.. وبالغ الأثر في اعماق النفوس.. ألم نزل حتى يومنا هذا نسمع للعاشقين رفقاء الثورة والثوار!
من منا لم يتعلم فنون الحب للزوجة.. للأم.. والمعشوقة.. عبر الأغنية..!! فجُلنا لم يتعلم الحب في أحضان الأمهات او على مقاعد الدراسة..
نعم لسنا مثل البعض المغالي أيا كان.. فمن يؤرخ اللحظة فقط قاذفا ما فيه من التهم ويمضي.. إننا من يحيون اللحظة حد التفاصيل حتى النخاع.. فنرى في صوتك أخي محمد حالة من تكامل الأدوار واكتمال الحكاية.. صوت الحياة رغم الوجع.. زغرودة الفرح رغم المقل الدامعة.. معنى الإبداع رغم الحصار والتضييق والإرهاب الفكري والثقافي.. هذا الاستثناء ما ميز الفلسطيني عبر سنين نضاله الطويلة.. فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.. فما زال وجوبا متسعا للفرح.. رغم بقايا الأحزان.. هذا قدر الفلسطيني.. وعليه العبور الآمن على حد "الصراط المستحيل" الذي قدر له السير عليه أمام ما يحياه ورجل الصعاب..
بالله عليكم لا داعي للخلاف.. نعم اتفق معكم إذ لم يخلق الشعب الفلسطيني من أجل أن يشتبك بالكلام.. إنما من أجل أن يحيا حرا..عزيزا.. كريما.. محبا للحياة.. ولكن لنعلم مدى الترابط الوثيق بين الأغنية والثورة.. مثل علاقة الأسير بالحرية.. يحياها عبر امتهان صناعة تربية الأمل.. يحياها بقوة المخيلة عبر استحضار الصور.. مثل علاقة المنفي وحنينه للوطن ودفء ترابه.. علاقة متجذرة ممتدة..حالها كحال القلوب والعقول والأرواح.. تأبى الانقطاع..
إمضي عساف كما عرفناك واثق الخطوة.. وسيظل صوتك حاضرا فينا وسنظل بمعاناتنا وآمالنا حاضرين فيك.. لأن علاقة الأغنية كالفكرة بالثورة والحرية.. مثل علاقة الالتحام والتكامل بين العظم واللحم.. علاقة لم تكن يوما نتاج طفرة او ابنة لحظة.. هي علاقة ميلاد ونشأة.. تربية وفكرة.. حلم وأمنية.. أمل وغاية.. فعل وتضحية..ألم ومعاناة..علاقة جدلية ستظل تكبر مع الأيام حتى تصل غايتها ومبتغاها.. فلسطين الدولة.. الديمقراطية.. والعصرية.. التي تصان فيها الحقوق والحريات.. والقدس العاصمة..
نعم أحبتي.. أخالكم ومن خلال متابعتي.. اختلفتم وغلوتم في الاختلاف.. أحسبكم حملتموه أكثر مما يحتمل.. كان الله في عونك يا ابن القطاع الحبيب.. الخارج من نار الاحتلال والدمار في غزة هاشم.. عذرا منك وإليك.. إذ بي أبرؤك أمام الله والجميع من دم المقتول.. من دم الانقسام المسفوك.. أبرؤك من تعثر خطى المصالحة والتحرير.. من تبدل أولويات وتغيير احداثيات شعبنا العظيم.. نبرؤك من تأخر حرية الأسرى بضعة عقود.. لكن في ذات اللحظة ندينك بجمال الصوت وملامسة الإبداع وتمثيل فلسطين تمثيلا حقا.. ندينك باحتضان الحياة ورسم البسمة على شفاه المعذبين والمحاصرين هناك.. الهاربين من ضنك العيش وأعباء الحياة.. الفارين من ضيق الانغلاق والتخوين.. الترهيب والتكفير.. إلى رحابة الفكرة وشمس الحرية.. ندينك بالغناء للقدس وللسور العتيق.. للوحدة والتآخي..للحبل السري الواصل بين الضفة والقطاع..
نشتاق إليك كما نشتاق لحريتنا والفرح.. لبيادر الحصاد..لمواويل الفلاحين في الحقول.. للممشوقات على الأغادير.. لك منا المحبة ودفء القلب والسلام.. أطيب المنى وصادق الدعاء.. بالتوفيق وإلى لقاء قريب في فيافي وأحضان الحرية.. ولشعبنا نقول : تخيلوا النتائج لو لاقى الأسرى ذات الدعم والإسناد.. ومعا وسويا حتى فلسطين الدولة.. والقدس العاصمة.. والله ناصرنا.. وسنخرج منها بسلام شامخين بإذن الله..