ضحكة عساف وعبوس الوطن - صونيا خضر
لن تكون آخر العبارات التي سنقرأها بخصوص مشاركة الفلسطيني محمد عساف في برنامج اراب آيدول هي؛ أن الشعب الفلسطيني قيادة وشارعاً وأسرى وشهداء صار سخيفاً، كما ولن تكون أولها على الإطلاق هي؛ أن الشعب الفلسطيني شعب سمج مائع ينسى قضيته وأسراه مع أول اطلالة لنجمه محمد عساف في ذلك البرنامج الاستهلاكيّ(كما يحلو لهم أن يصنفوه).
ترى هل يحق للنساء أن تبدون أكثر نضارة وللأشجار أن تصير أكثر خضرة وللموسيقا أن تصدح أكثر قليلاً إن كان الوطن ومنذ ولادته غارقاً بهمومه متشحاً بطين الوقت مسكوناً بشبح الموت مشبوحاً على جدران بالغة الوهن والتصدع؟
وهل يحق لعصفور غرّيد أن يغادر فضاءه الضئيل ولو قليلاً والانتساب لفصول الغناء الشاهقة بالتمني على سبيل التحليق الحر والأمل الممكن؟
لن أكون الاولى التي تكتب حول هذا الموضوع ولا الأخيرة ايضاً، ولم تكن لي رغبة بذلك لعدة أسباب أهمها أني أفضل دائماً الانضمام الى الصفوف الخلفية للمعارك التي أخوضها لايماني الشديد بأن الصف الخلفيّ هو الذي يدفع الحشد دائماً الى الأمام ولأني لا أملك طبلاً ولا مزماراً ولا حتى بنية قوية لأجعل الجميع يقفون خلفي.
لكني وفي موضوع محمد عساف ولأني أجد مساحة فارغة تركها بعض المناسباتيين ربما خشية على قاماتهم العالية أو حياداً ذكياً يدفعهم إلى الصمت في هذه المرحلة لكي يكونوا أوائل من يشهرون البيانات الختامية وأوائل المهللين إن نال عساف اللقب وأوائل العارفين بحتمية خسارته إن لم ينله، وجدت الفرصة سانحة أمامي للهزيمة الساحقة التي ستنالني جراء مشاركتي في التصفيق والدعم لما يرونه سخيفاً الآن ويتركونه خلفهم ولن يتناولوه، وما سيرونه عظيماً لاحقاً وسيكتبون عنه، بعد أن ينال عساف اللقب ولا أحظى أنا ولو حتى بركلة جزاء في كلا الحالتين..
سأبدأ من نقطة أثارها الكثيرون وهي الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس محمود عباس بأحد القائمين على البرنامج، وقامت الدنيا ولم تقعد منذ ذلك الحين، وتراشق المختلفون والمخالفون الأحذية والشتائم والحجارة علناً على حائط الفيسبوك، فقد كان من الأجدر بالرئيس فعل (كذا وكذا وكذا...) للقضايا العالقة منذ قرون بدلاً من هذا الاتصال الذي كلّفه دقيقتين من الوقت قد تكونان كافيتان لتحرير كل الأسرى ودحر جيش الاحتلال نحو البحر الجاهز منذ عقود لإغراقه!
أنا أتفهم جيداً الموقف المتشنج لبعض المزاودين على هذه القضية وأتفهم الاستنكار الحاصل نتيجة الاهتمام الرئاسيّ بحالة خارجة عن المألوف، فنحن حين نسمي الأشياء بمسمياتها نعجز تماماً عن أنسنة الفكرة أو الموقع أو الهيئة الاعتبارية إن تعلّق الأمر برمز وطنيّ ونتحيّن الفرص للاختلاف معه والتآمر عليه من باب الإثبات أنا مختلفون (فقط)، ونحيله فوراً ودون قصد الى تلك الثلاجة التي نرغب بها باردة بما يكفي لتجميد قلبه ومشاعره إلى تحت درجة الصفر الانسانيّ.
لكن وليس من باب الدفاع عن الموقف الرئاسي حيال المبالغة في دعم محمد عساف أقول انه قد يغيب عن أذهاننا أن الرئيس بشراً مثلنا، أنا لا أعرف الرئيس بالمناسبة ولم أقرأ يوماً في حياته الخاصة لكني أتوقع أن يكون بشراً مثلنا، وبناء على هذا التوقع أتوقع أن الرئيس وقبل أن يكون رئيساً وقبل أن تخضع صورته لعمليات التشفير والترميز والحقن بوسائل التجهم والعبوس التي لن يتقبّل شعب عربي رئيساً دونها، كان قد مرّ بعلاقات عاطفيّة واستمتع بشعر نزار قباني وقرأ كتباً ممنوعة ورقص في أعراس ابنائه، وقد يكون تجاوز ذلك الى ممارسة بعض الهوايات الغريبة، كجمع الطوابع او ركوب الخيل أو اطلاق الطائرات الورقيّة مثلنا تماماً؟؟
وقد يغيب عن أذهاننا أيضاً نحن من نتخذ من الغرب نموذجاً مشرفاً (من باب أن كل فرنجي برنجي)، أن بعض الرؤساء لكبرى البلاد والعواصم قد حوكموا لأسباب انسانية بحتة وقد ارتكبوا خيانات بحق عائلاتهم وزوجاتهم وهذا شيء طبيعيّ جداً في سياق التوليفة البشريّة المتّفق عليها لاختيار قائد الحافلة من بين المسافرين وليس من فضاء آخر أو من جهاز الكتروني قادر على صنع روبوت يحمل كل الصفات الحركيّة ولا يمتلك القلب ولا المشاعر
وليس من باب الدفاع (أيضاً) عن اندفاع الشارع الفلسطيني بفعاليته وحماسه وكل حملاته التعبويه لدفع هذا العصفور إلى اقصى ما يستطيع من الطيران ليقطف نجمة من نجمات المجد في وقت تصطف فيه الطيور بكامل أجناسها على أسلاك الكهرباء المكشوفة معرّضة لكل صعقاتها الممكنة، تنتظر من يمد لها هواءً نظيفاً أو يحرر أجنحتها للطيران، أقول أنه قد يغيب عن أذهاننا أيضاً أن تلك الطيور تنظر هي أيضاً بعين الأمل والرضى لمن سيفتح لها فضاء الغناء، وتحتاج للاستراحة (ولو قليلاً )من الترقب والانتظار والانزلاق في قزح الأقواس على سبيل الحلم..
وليس من باب الفزلكة أوالتذاكي سأطرح أسئلتي الأخيرة هنا؛
هل بوسع العشاق مغادرة مقاعدهم والكفّ عن تناول الكابتشينو في مقاهي رام الله والتوقف عن سماع أغاني عبد الحليم وكاظم الساهر لأن ثمة عشاق آخرون لا يجدون ملعقة سكر لتحلية أيامهم المرّة بين القبور أو في ثلاجة الموتى؟
وهل بوسع البيوت العامرة بشبابها وفتياتها ورغباتها الانسانية بالحب والتناسل والاستمرار وأد أعراسها ودفن أحلامها لأن جدّها الأكبر كان قد دفن في البرازيل لعدم تمكنه من العودة الى الوطن؟ أو ربما وفي حكاية أخرى كان فقيراً أو شهيداً أو مهجراً ومات ومفتاح بيته الذي في يافا قد صديء بين يديه وسبّب له غرغرينا في القلب والروح؟
وهل تخذل أم ابنائها لو طالبوها بإضافة المطيبات المقطوفة من حديقة البيت الى طبقهم اليومي؟
وهل أسبوع اضافيّ واحد للفرح سيغلق أمام فلسطيننا كل أبواب العودة الى فردوسها المفقود؟
وأخيراً
هل نرتكب معصية كبرى إن زرعنا الزنابق بين القبور ولم نكتف بدم الشقائق يلوّن صمتها ووحشتها؟
نكسة تلو نكسة تلو اجتياح تلو موت تلو حرب والفلسطينيون متشحون بهمومهم واقفون على باب القيامة يحاربون تارة وينتظرون تارة أخرى ويدفنون واقفون ممتنعون عن الحلم والحياة
ويحدث أن يمر ذلك الشهاب مرة كل ألف سنة ويستكثر هذا الوهج على سمائنا الداكنة؟
هكذا وبكل بساطة دعوه يأخذنا ولو قليلاً إلى حدائق الحلم ويجفّف عرقنا ويكشف عن بياض أسناننا، لكن دون أن تنتظروا منه أن يعيد لنا شهدائنا ولا أحبتنا الراحلين.
اقبلوه كما هو واطلقوا جناحيه أكثر.
نعم نعترف بأن وطننا يعاني ومنذ ولادته من ضيق في التنفس وحجر جاثم على الصدر لكنا نعرف أنه ليس مريضاً ، ليس معتلاً بالتجهم والعبوس كما نتصوره ونصوّره
أزيحوا هذا الحجر عن صدره وافسحوا له الهواء ليتنفس قليلاً
تعالوا لننفي عنه الآن انه ولِدَ بعيب خلقي يمنعه من التثاؤب و الضحك والفرح..
تعالوا لنواجه العالم كلّه ولو مرة واحدة.. بالفرح
بمحمد عساف محبوب فلسطين والعرب