احمد رفيق عوض وروايته النوعية الخامسة «القرمطي»- احمد دحبور
هذا كاتب نوعي، اتخذ من الكتابة السردية اسلوب حياة فلم يكن قد تجاوز العشرين من العمر عندما كتب قصص مجموعته الاولى، ثم توالت اعماله حتى بلغت خمسة عشر كتابا بين رواية ومجموعة قصصية وصولا الى المسرحية. ولد احمد رفيق عوض في يعبد، من اعمال جنين، عام 1960، وبعد حصوله على بكالوريوس في العلوم عام 1982، دخل الحياة العامة مدرسا وكاتبا ومناضلا سياسيا، اضافة الى مشروعه الاعلامي مذيعا وصحفيا ورئيس تحرير في غير مجلة فلسطينية، فضلا عن عمله محاضرا في جامعة بيرزيت ثم في جامعة القدس ولا يزال في اوج عطائه وألقه الادبي.
لم تكن مجموعته الاولى «البحث عن التفاح» الا مدخلا قصصيا لعالمه الروائي الذي بدأه بعمل اشكالي لم يمر مرور الكرام، واعني به روايته «العذراء والقرية» التي اعتبرها بعض المتربصين كاشفة اسرار ومواجع، ثم تدفقت رواياته «قدرون - مقامات العشاق والتجار - آخر القرن - القرمطي - عكا والملوك - بلاد البحر» وله قصة للاطفال بعنوان «شجرة النقود» ومسرحية بعنوان «الملك تشرشل»، وثلاثة كتب في الصحافة والاعلام هي على التوالي «صحافة الراديو - لغة الخطاب الاعلامي الاسرائيلي- التغطية الصحفية للصراعات العسكرية والسياسية».
واذا كانت هذه المعلومات مستمدة من كتاب الكاشف الذي اصدره نزيه ابو نضال وعبد الفتاح القلقيلي عام 2007 فمن المتوقع ان يكون احمد قد اصدر جديدا بعد هذا الكتاب بما فيه من معلومات.
ويذكر ان الكاتب قد حظي باهتمامات النقاد والدارسين مثل علي خواجة وزاهي ناصر وغيرهما، والاهم الاهم انه ظل حاضرا في المشهد الثقافي الفلسطيني من خلال عطائه ومتابعاته المتواصلة.
اما اليوم فهو يرسلنا الى رواية ذات وقع خاص ضمن نتاجه الوفير.
رواية «القرمطي»
تدور احداث الرواية في القرن الهجري الرابع، عندما كانت الخلافة العباسية تتهالك وتتهاوى بين خطر القرمطي الذي يهدد حدودها وخطر مؤنس الموشك على قتل الخليفة: اما الخليفة العاجز فلا يملك الا ان يرثي نفسه، نادما على قتل ابن فرات الذي كان سندا له في وجه مؤنس. وها هو مؤنس هذا يشيع انه انتصر على القرمطي، فيما تقول الحقيقة شيئا نقيضا، وهو يشحذ سيفه ليقتل الخليفة الذي يبكي مستسلما.
اما واقع الخلافة آنذاك فهو «حكيم ينقصه الحزم، وطالب لذه لا يطاوعه الزمان» فالخليفة الراكض وراء شهواته لا يستطيع مواجهة الخطر الذي يدهمه من الداخل، وسط حالة من تخلي الجمهور او عدم مبالاته بما يجري في قصور المنعمين والمتسيدين، فيما تملك العاهرات المتسلطات مجسدات بمن تسمى شغب، مقاليد الامور حتى ليصح قول تلك الايام: «بغداد مهزومة قبل ان تغزى».
اما الحكمة المستمدة من هذا الخراب، فيقولها للمفارقة، ذلك الخليفة الغارق في المتعة: الاستغراق في المتعة يدفع الى استنكار الموت، لتكون النتيجة حرفيا: «المتع تطيل الغفلة والغفلة غرور»، وهكذا نرى انه لا يكفي استشعار الخطر حتى نرد الخطر، بل لا بد من تغيير جذري، وهو ما لم يحدث مع الاسف. فقد نجح مؤنس المتآمر على الخليفة، بازاحة الخليفة المعتضد، وتولية اخيه اما الخليفة الجديد، ابن المعتضد فقد كان مشغولا بأمرين: ان يواصل مجونه وان يقتل من يستطيع ان يقتله!! وبهذا اصبح هذا السادي شبه المجنون خليفة يحمل لقب «القاهر» وصار للبلاد خليفة تركي لا يعرف اباه من امه ليجبي مؤنس خراج الخلافة بلا حسيب او رقيب فيعم الغلاء والفساد وتضيع هيبة البلاد. حتى ان المقتدر، المغلوب على امره، كان يحتج بينه وبين نفسه، لا على القتل فهذا ممكن في زمن الفتنة والتغيرات، ولكن ما يمضه ان يرى نفسه حبيس بيت حقير وهو بلا حول او طول.
على ان مفاجآت الخلافة في ذلك الزمن لا تنتهي، فقد اطيح بالقاهر الذي لم يكن يرى معنى لتنصيبه اصلا، واعيد المقتدر الى الخلافة فاستغل هذه الفرصة باجراء تعديلات وتغييرات في الحكم ترضي المقربين، وكان هذا من تدبير الوالدة في قصر يموج بالمؤامرات والدسائس حيث لا ضمان لبقاء احد في منصبه، وربما لا مسوّغ لتلك المناصب اصلا ما دامت المصالح ومواقع النفوذ هي التي تحكم وتشتد وطأة النساء والمتآمرين حتى ليصبح هؤلاء هم عنوان ذلك النوع من الخلافة.
هذيان المخيلة
بعد اعادة المقتدر الى الخلافة تتوقف الرواية عن السرد زهاء خمس وعشرين صفحة، حيث يدور نقاش فقهي حول الوجود والعبادة وسياسة ذلك الزمان، انه نوع من هذيان مخيلة ذكية موشاة بثقافة نظرية، وهو ما يفسح لظهور شخصية ابي طاهر بأطواره الغريبة وآرائه الجريئة في الدين والدنيا حيث ورث احلام والده العريضة بتدمير كل شيء، تدمير المدينة وناسها.
ولعل هذه الصفحات الاستثنائية في الرواية، ان تكون بمثابة جملة معترضة شاسعة يبسط فيها الكاتب رؤيته لذلك الزمان ولإخراج السرد عن كونه رصدا لاحداث تتدافع، فالحياة افكار ورؤى وتناقضات وهو ما يروق للكاتب ان يعرضه في سياق هذيان المخيلة حتى وهو يعي الى اين يمضي، فقد وصل السرد الى لسان القرمطي الذي شرع في شرح افكاره الهرطوقية ووصف سياسته في فهم الدين والدنيا وصولا الى فكرة مجنونة تتجرأ على هدم الكعبة المشرفة.
ويبلغ سير الاحداث ذروته بوصول ابي طاهر والتفاف الناس حوله في حالة من المجون والعربدة، وكان ابو حفص، شقيق زوجة ابي الطاهر، رجلا طموحا داهية، قصير القامة ذا صوت جهير، فبدأ ينصح ابا الطاهر ليفعل ما يتجاوز افعال اسلافه، واذا كان ابو الطاهر قد انشأ دولة فإن ابا حفص ينصح الطاهر بانشاء ما بعد الدولة مما لا يفعله سوى اله فكان يطمر الذهب خفية ثم يدل ابا حفص عليه ليستخرجه امام الجمهور فيبهرهم بما يظنونه معجزة. وراح يغري ابا الطاهر بأن يجلب الحجر الاسود من الكعبة ويضعه في دار الهجرة، فتتحول هجر حيث ابو الطاهر، الى مزار مقدس، مستغلا تفكك البلاد وانشغال الثغور بالمخاطر الخارجية.
كانت دار الهجرة التي بناها سليمان ابو طاهر الجنابي طويلة حتى لتبلغ ستين ذراعا، وكان عرضها عشرين ذراعا ما اضفى عليها مهابة تسحر الاعراب والرعية، فأبو طاهر لم يدع الالوهة او حتى النبوة، لكنه احاط سلطته بنوع من ايحاء بالقداسة يجعل حتى افعاله الغريبة محط اعجاب ورهبة. انها انموذج لدار عبادة غامضة يدعمها كلام غير واضح من غير تطاول على المقدسات المتوارثة، وان اوحى بأن دار الهجرة هي وحي من السماء تلقّاه ابو طاهر استعدادا لظهور المهدي.
وهكذا تحول هذيان المخيلة الى خدر يشمل جماعة بكاملها فلا تملك الا ان تقر لابي الطاهر بالسيادة.
الزمن الرديء
«الخليفة هو الخليفة، اكان ابا بكر الصديق ام هذا الزنديق!!» ذلكم هو لسان الحال في تلك الفترة المعتمة التي ادارها مؤنس. فالناس يؤخذون بلقب ويتذمرون من سلوكه الشاذ ولم يكن لهم في ذلك الخيرة من امرهم. اما الهيبة الحضارية فقد تهاون حتى ليقال ان بغداد، عاصمة الخلافة، كفت عن ان تكون مدينة واحدة.. وكيف تكون كذلك «وفيها خليفة مجنون جديد»؟ حيث ظلم مؤنس، ووحشية نازوك، وشدة علي بن عيسى، وبلاهة محمد بن مقلة، الى آخر هذه الاسماء التي اصبحت رموزا للزمن الرديء بعد ذلك العهد الذي كان يتوعد فيه الرشيد سحابة السماء بأنها ستمطر في ارضه مهما تبتعد!! هل للخليفة المقتدر بعد هذا الا ان يتوارى ويهرب؟
ولكن العبد صانع لقدره كما تقول المعتزلة، اما محمد القاهر في ذلك المساء فلم يكن يعرف عن قدره شيئا. فقد تم تنصيبه خليفة ولا حيلة له في ذلك، اما القرمطي الذي غزا عاصمة الخلافة، فقد ثار الناس عليه وكفروه. وكان على الخليفة الجديد ان يركب من داره الى قصر الخلافة، وهو لا يحب الخيل ولا يحسن امتطاءها، وكانت البردة الزائفة تحيطه بوصفها بردة النبي، ولم يكن خاتم الخلافة في اصبعه اقل زيفا، اما بطانته فمؤلفة من مؤنس على يمينه ونازوك على شماله، وهو لا يدري من امره شيئا، خليفة رديء يليق بزمن رديء.
تطلب العامة من الخليفة حق البيعة ورزق السنة فيقول متلجلجا: لا مال لدي، وقد قبلت بهذا المنصب على الا تطلبوا مني شيئا. فقالوا له: ونحن نخلعك، نحن نضعكم لتنفقوا علينا لا لتحكمونا فتدخل الامير بدر معلنا ان المقتدر سيدفع ولقد كان هذا المشهد الكاركاتوري معبرا عن واقع الحال. فالخليفة يجاء به ويتم الاعلان باسمه عن تسديد الحقوق للناس، وهو لا يفقه شيئا من هذا كله، الا ان يعود ادراجه على حمار مكترى بعد ذلك الهيلمان المصطنع.
تدبر شنب، والدة المقتدر، مكيدة لخصوم ابنها فتقتل نازوك بعد ان استدرجته عن طريق الجارية ثمل، وهكذا تشعر ثمل بأنها مجرد متاع ووسيلة للخداع، ويشعر مؤنس بأن مؤامرة قتل نازوك زعزعت مكانته. أماالمقتدر المنتشي بدحر خصومه، فكان لسان حاله: أهين المال فأهين من يعبدونه، فهو ليس المأمون المثقف ولا الواثق الحازم، بل الرجل البراغماتي العارف بسطوة المال على النفوس.
وبعد فصل مترع بالنقاش الفقهي حول اصل الكون ومسبب الاسباب يعلو صوت ابي طاهر داعيا الى السلاح لاستباحة الكوفة، فاجتيحت بأقل من الفين ما بين راكب وراجل، في لحظات تحولت الكوفة الى مشعل هائل من النار، فدب الذعر بين اهلها وتشردوا في القفار.
هل الزمن الرديء زمن غير ذلك الزمن؟ فما الذي يمنع ابا الطاهر من ادعاء الالوهة أو اسباغها على احد غلمانه؟
مغناطيس القلوب
وفي تلك الفوضى، وخلال هذه الانقلابات كان ابو الطاهر يجمع المريدين والاتباع ويسأل عن الوسيلة التي تمكنه من الظفر بكل شيء، فقيل له عليك بمغناطيس القلوب. ولم يكن هذا الا الحجر الاسود الذي اذا انتقل الى مكان، اصبح هذا المكان بمثابة كعبة جديدة!! ولم يكن ابو الطاهر ليبالي بما يقال بل يصغي باهتمام الى شقيقه ابي الفضل الذي يسوّل له ان كل ما يقوله الناس ترهات، والحقيقة هي الحكم وفرض الامر الواقع. وبهذا فلا هيبة للحجر الاسود بل لمن يشرف على هذا الحجر المسمى بمغناطيس القلوب. وفلسفته ان الحقائق مملة وتافهة لان «العامة تحب الاكاذيب» وامعانا في هذه الاكاذيب، قام ابو طاهر بتأثيث داره بالذهب الخالص ورشق الجدران بالتصاوير والكثير من الخزعبلات وقال ان دار الهجرة هي وحي من السماء، وجعلها مقصدا للحجاج وطالبي البركة!!
حين سمع الخليفة المقتدر بتدبير ابي الطاهر في دار الهجرة، جمع اركان حربه فلم يكن فيهم من هو جدير حتى بتقديم النصيحة، فقد كان حجم الخراب السياسي اكبر من ان يحيط به خليفة ماجن عاجز.
اما ابو طاهر فقد جمع قومه ودعاهم الى اجتياح مكة. فاجأهم الطلب لكنهم لبوا طائعين، وفي الطريق الى مكة هاجت الرياح والعواصف وبموازاتها هاجت مشاعر الجهشياري وهو يؤدي مناسك الحج، متأملا في الوجود، مستذكرا سيرة النبي، كأنما يصدق على معنى الحجر الاسود وقداسته بوصفه مغناطيس القلوب. وفي تلك اللحظات دوى النفير، وتبين ان ابا طاهر يحيط بالحجيج، وعبثا حاول هؤلاء تأخير الكارثة. فقد اوفدوا من يسأل ابا الطاهر عن نيته، فأجاب انه سيدخل مكة حاجا لا اكثر. ومع عدم اقتناع احد بهذا الادعاء الا ان القوة فرضت الامر الواقع، فقد دخل هذا مع جنده لتنفيذ مذبحة مروعة ذهب ضحيتها عشرون الف حاج.
وحتى يبرد الكاتب غضب القراء، سارع الى التذكير بزمن ليس هو زمن الرواية، عندما اصيب ابو الطاهر هذا بنوع من السعار والهذيان الذي تصور معه انه كلب مع اشارة في الختام الى ان الرواية مستمرة، بمعنى ان احداث الصراع التي جعلت الايام دولا ستستمر الى ما شاء الله.
كانت تلك مجزرة ابي طاهر، القرمطي الذي اجترأ على المقدسات وسفك الدماء حتى ان الكاتب المستعين بالتاريخ لم يستطع ان يقاوم رغبته في تذكيرنا بالعدل الذي سيسود ولو بعد حين، وهو ما يمنح العزاء من حيث ان الرواية مستمرة.
رواية ام تاريخ
اعترف بأن ما اعرفه عن هذه الحقبة هو شتات ذاكرة تطل على المشهد الدموي بشكل عام، وبأن رواية احمد رفيق عوض قد جمعت شتات الذاكرة في نص مثير شيق.
ربما لهذا السبب تقف هذه الرواية في مكان لافت من اعمال الكاتب، فهي من جهة تذكرنا بأعمال جورجي زيدان التي سحرت جيلنا بانتقاء لحظات اشكالية من تاريخنا العربي، في سياق سردي مثير.
ومن جهة ثانية تتعالى على تقديم العبرة والحكمة تاركة لحيادية الحدث ان تتولى مهمة ايصال رسالة الكاتب. فهي بمعنى ما رواية معاصرة تستعير كتاب التاريخ، او انها تأريخ تراجيدي يسعفه النسيج الروائي، والى ذلك عمد الكاتب الى اسلوب السارد المتمهل في معرض تقديم الدرس التاريخي.
ولان السياق الزمني يقضي باستعادة لغة الاسلاف، فإن الكاتب اختار منزلة بين المنزلتين. حيث اختار السرد الموضوعي المحايد من جهة، ونفذ من جهة ثانية الى دواخل بعض شخصياته كالجهشياري وانجذابه الروحي الى مكة والحجر الاسود وسط الحجيج، بل انه لم يتردد احيانا في النطق باسم حكمة علوية دينية، كأن يقول: «الموت ليس نهاية ابدا، لا يمكن للموت ان ينهي المرء هكذا مرة واحدة» اما الشهادة على ذلك العصر، ملخصة بجمع فريد بين المعصية والايمان، شرب الخمر والحكم بكتاب الله، فهي ميزة هذا العمل من حيث هو تأريخ للمناخ بقدر ما هو تدوين للاحداث، فقد كان خريف الخلافة العباسية جامعا للتناقضات، واذا كان الجمهور مغيظا مقهورا من ولاة الامور آنذاك فان القهر كان يسود الموقف الشعبي، ولعل هذه الملاحظة تحديدا هي صلة الحبل السري الذي يربط رواية تاريخية كهذه باسقاطات معاصرة على زمن قد لا يكون الفجور فيه بهذا الوضوح، ولكنه بالتأكيد زمن اشكالي نتأمل فيه الخيانات والتناقضات والنكوص عن المبادئ.
ان المثقف المعاصر لا يسمي الحجر الاسود مثلا مغناطيس القلوب، ولكن هذا لا ينفي ما للحجر الاسود من مكانة روحية موروثة لدى المثقف المعاصر، المثقف ذي التربية الاسلامية على الاقل، وربما كان هذا هو السبب الذي دفع الكاتب الى الاستجارة بما بعد الزمن الروائي، فلحق بالاحداث الى اللحظة التي يتم فيها القصاص من الظلم والاضطهاد، واذا اعدنا السؤال: هل هذه رواية ام مدونة تاريخية؟ نرى ان الكاتب قد نجح في ايجاد جواب معقد يجمع بين الصفتين.
اسئلة وجودية
قد يكون من التزيد ان نطالب هذه الرواية بأجوبة عن اسئلة وجودية ليست من شواغلها، ولكن الكاتب الذي كان سخيا بتقديم المستويات الجوانية للشخصيات الرئيسة في العمل، ظل يغرينا بطرح مثل هذه الاسئلة، كأن يقول الخليفة: كيف حدث ان صرت وحدي.. لا نصير ولا سند، والواقع انه سؤال مشروع تطرحه كل شخصية اشكالية على نفسها، ولكن ما يستوقفنا هنا هو ان الخليفة ليس مجرد حاكم وحيد، بل هو صورة عن انسان معاصر يجد نفسه غريبا في موقع يفترض انه موقع قوة، وقد مهدت الاحداث لذلك بعرض سيرة هذا الحاكم المنكود موزعا بين نزعاته الدونية كالخمر والنساء، وبين موقعه كإنسان مطالب بواجبات تجاه الناس، فقد لا نشفق عليه عندما يعترف بأنه وحيد بلا سند او نصير، لكنه اشفاق محمول على حكم تاريخي قاس بمعايير الاخلاق والقيم.
وهو ما يحيلنا على سؤال ابعد من التشخيص الوجودي من حيث مساسه بطبيعة الحكم الاستبدادي: «ما اغبى الناس هم يعرفون ان خلفاءهم لا يحكمون ومع ذلك فانهم متمسكون بهم».. هكذا يفكر مؤنس المتآمر، مع ان الفكرة اخطر من تشدق متآمر موتور، اذ هي مبنية على ملاحظة عاقلة حول زمن غير عاقل. فالناس يعرفون ولا يفعلون وهذا اللافعل انما هو موضوعيا بمثابة التمسك بالحكام الظلام، ولهذا يمكن للناس فيما بينهم ان يسخروا من الحاكم ومن حربته المجانية، ولكن هذه السخرية لا تبرئهم من انهم راضون بما يحدث.
وفي مناخ هذه الثقافة المستقيلة يبرز النقيضان: الخليفة رمز الحاكم الماجن العاجز والقرمطي رمز القسوة والوحشية، وكلاهما من رموز الخراب والفساد، بمعنى ان الكاتب لم يشغله ترف الحياد بين الحاكم والمحكوم، بل رمى الاسئلة في وجوه شخصياته وقرائه على حد سواء.
ان هذه الرواية المكثفة لتتسع لكثير من المقولات والاخبار والافكار قد تكون وجودية تتناول السؤال عن جدوى كل شيء، وقد تكون مسدودة الى رباط حازم من الاخلاق والقيم، وقد تتشعب حتى تلامس القلق المعاصر مما نرى لا في التاريخ وحده، بل في واقعنا الملتبس حيث السلطة بعيدة عن جوهر ما يشغل الجمهور.
«القرمطي» رواية غير عادية تشير بحرقة الى زمن غير عادي..