مقعد شاغر لعرفات- أمجد عرار
أين أنت ذاهب؟ إلى مالطا . اعتدنا أن نسمع هذا الجواب من شخص غاضب أو يريد أن يقول للسائل أن لا شأن له بوجهته .بطبيعة الحال، اختيار مالطا كجواب يصطف إلى جانب الأمثال الشعبية، يشير إلى بعد جزيرة مالطا عن فلسطين المحتلة . لكن مالطا التي كانت بعيدة في الأزمان الغابرة حين كانت وسائل المواصلات معدومة، لم تعد كذلك، والفلسطينيون أدركوا ذلك حين استيقظوا ذات صبح قبل ثمانية عشر عاماً على خبر اغتيال “الموساد” الصهيوني للقائد فتحي الشقاقي الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي .
قبل يومين كانت جزيرة مالطا تحتضن حفل تخرّج الطالبة زهوة ياسر عرفات واجتيازها مرحلة الثانوية العامة . تحدّثت زهوة عن أبيها، الرئيس الشهيد، وتمنّت لو أنه موجود يشهد حفل تخرّجها . عرفات لم يكن موجوداً بجسده، لكنّه موجود بطيفه الأبوي ليس في حفل تخريج ابنته فحسب، بل حيث يتواجد فلسطيني وعربي وإنساني يحمل مبادئ الثورة وقيم الحرية وثوابت النضال لأجل الإنسان وضد القهر والاستعباد .
عرفات لم يكن موجوداً فقط من خلال كوفيته التي ظللت مقعداً شاغراً في الصف الأول في حفل تخريج كريمته التي كبرت على دموع فراقه، بل من خلال ذكرياته في مخيلة الطفلة التي ترعرعت على إرث أب وقائد حال الحصار دون وجود ابنته الوحيدة في أحضانه حين تسلل مسمموه إلى دمه الفلسطيني ليضعوا حداً لحياته ليس لإسقاط الغصن الأخضر من يده فحسب، بل لإسقاط كلمة “لا” من على أبواب القدس في عقل القائد الذي بشّر بأن شبلاً أو زهرة من أتراب زهوة، سيرفع علم فلسطين على أسوار القدس ومآذنها وكنائسها، “شاء من شاء وأبى من أبى” .
وزّع الحضور، من الفلسطينيين والعرب والمالطيين، دموعهم بين بكاء واحدة من أبناء الشهيد، والكوفية المظللة للمقعد الفارغ التي طالما كانت رمزاً لفلسطين متدلية على كتفي القائد الراحل راسمة خارطة فلسطين التي ناضل من أجلها لنقلها من السياسة إلى الجغرافيا، وإن على مراحل، ورغم كل ما اعترى مسيرة نضاله من إخفاقات وأخطاء جلّ من لا يقع فيها من البشر .
ترك عرفات مقعده فارغاً، والفلسطينيون جميعاً، مؤيدوه ومعارضوه، يحسّون بفراغ المقعد، ومثلما أن “خيمة عن خيمة تفرق”، فإن مقعداً عن مقعد يفرق أيضاً، وشتان بين من يشقون الطريق في الصخر ومن يسيرون خلفه، ولا سيما إذا اختلفوا بعده وغرقوا في هوامش الغنائم الوهمية . عرفات رحل ليترك قضية حيّة بعدالتها، ومهدّدة بانقسام أبنائها، بل بإصرارهم على الانقسام وتوزّع ولاءاتهم على العواصم والممولين .
مهما يكن من أمر، فإن الفلسطينيين يدركون أن الموت نهاية كل إنسان، وإن عرفات والكوكبة المؤسسة للثورة الفلسطينية مثل جورج حبش وأبو جهاد وأبو إياد وأبو صالح وأبو اللطف، لن يبقوا قادة أو بشراً على قيد الحياة حتى نهاية المسيرة، وأن هذا الشعب قادر على إفراز صفوف من القادة، كما قال الحكيم، لكن القضية الفلسطينية بعد هؤلاء القادة انتكست، ووحدة الفلسطينيين تبدّدت . وإذا كان مقعد عرفات في حفل ابنته كان شاغراً، فإن الكثير من المقاعد تبقى شاغرة حتى لو امتلأت بكتلة من اللحم والعظم