حين يُعلي الفن ثقافة المقاومة- طلال عوكل
الفوز بلقب "محبوب العرب" الذي حققه الفلسطيني محمد عسّاف يوم السبت الماضي، لم يكن حدثاً عاطفياً، أو فنياً وثقافياً فقط، ولم يكن، أيضاً، لتتوقف تداعياته وأبعاده عند المظاهر الاحتفالية، التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومختلف التجمعات الفلسطينية في الشتات والمهاجر.
يحق للفلسطينيين أن يفرحوا وأن يحتفلوا بمثل هذا الإنجاز، فالأمر بالنسبة لهم، ليس فوزاً في منافسة عادلة على الفنان الكبير أحمد جمال والفنانة الكبيرة فرح يوسف، إنه انتصار لمعايير العدل والحق، وهو انتصار لثقافة المقاومة، وانتصار على الاحتلال وعلى كل وسائل القتل والتدمير، إنه انتصار لثقافة ولغة السلام والحب، انتصار للإنسان الإنسان.
من حيث المبدأ لم تكن القضية الفلسطينية التي يتعاطف معها ويساندها كل العرب، نقول لم تكن هذه القضية هي التي تقف وراء فوز عسّاف، فهو بكل المعايير الفنية، ورغم قوة المنافسة، يمتلك خصائص ومواصفات الفنان المبدع، الذي قالت عنه الفنانة شيرين عبد الوهاب، إنه صوت لا يتكرر كل خمسين عاماً، وقال عنه حسن الشافعي بل انه صوت يكاد لا يمر كل خمسمائة سنة.
بجدارة الفنان المقتدر استحق عسّاف انتزاع اللقب، وثمة من قال قبل ظهور النتائج إن عسّاف لا يسعى إلى اللقب، لأن اللقب يسعى إليه، إذا كان هذا هو الحق، الذي انتصر له الجمهور العربي، فإنه يحق للفلسطينيين أن يحتفلوا، وأن يبالغوا في الاحتفال والتكريم. عسّاف بذاته اعترف أنه لم يكن ليتصور أنه سيصل إلى الأدوار النهائية، ولكن ابن المخيم المقهور، والأسرة المتواضعة في إمكانياتها ورغم قهر الحصار، والعدوان، تمكن من الفوز، وكأنه يريد أن يقول إن تحت رماد الواقع المرير، ناراً متقدة.
في قطاع غزة، كما في الضفة، وأراضي الـ 1948، وكما في الشتات، تتوفر طاقات فنية وثقافية، وقدرات شبابية مبدعة في الكثير من المجالات. لكن الفرص المتاحة أمام هذه الكفاءات محدودة جداً، غير أن قصة عسّاف تفتح أمام الشباب آمالاً عريضة، بإمكانية تحقيق أحلامهم الحبيسة.
ولكن علينا أن نلاحظ الفرق في السلوك الوطني العام ومدى مساهمته في تحقيق الفوز، ففي حالة الفنان الفلسطيني عمار حسن الذي فاز بالمرتبة الثانية في برنامج سوبر ستار، ورغم كل ما يقال عن الفارق بين قدرته وقدرة عسّاف. في هذه الحالة لاحظنا أن عمار حسن لم يحظ بالدعم الرسمي والشعبي، ودعم رجال الأعمال والمؤسسات الوطنية كما حصل مع عسّاف.
لا نقول ذلك لكي نسجل ملاحظة عابرة، وإنما للفت أنظار كل المستويات السياسية والشعبية الرسمية وغير الرسمية، إلى ضرورة الاهتمام المبكر بتنمية والتقاط المهارات الشبابية الإبداعية، في الفن والمسرح والأدب والسينما، والصحافة، والغناء والرقص الشعبي والتراث، فالاشتباك مع الاحتلال، هو اشتباك مفتوح، وليس فقط اشتباكاً سياسياً أو عسكرياً.
هكذا نفهم طبيعة وأبعاد الصراع، وهكذا نفهم المقاومة بكل أشكالها، دون أن نهمل أيّاً من هذه الأشكال.
لقد احتفل الشعب الفلسطيني بالانتصار السياسي الدبلوماسي الذي تحقق في الأمم المتحدة بشأن مكانة دولة فلسطين، واحتفل بصمود المقاومة وقدراتها. ونجاحها في رد العدوان الإسرائيلي في شهر تشرين الثاني العام الماضي. وها هو يحتفل مجدداً بإنجاز ليس سياسياً وليس عسكرياً.
على القيادات السياسية والفصائل وكل المشتغلين في العمل الوطني أن يصدقوا مشاعر الرأي العام، خاصة حين لا تتدخل السياسة وأدواتها في تحديد طبيعة وأبعاد أية قضية احتفالية. الناس تابعوا مجريات وحلقات البرنامج القوي الذي قدمته قناة "ام بي سي"، وخرجوا إلى الشوارع احتفالاً حين تم إعلان فوز عسّاف، ولم يكن أحد قد طلب منهم ذلك. والحقيقة أن التصويت المكثف الذي أدلى به الفلسطينيون لعسّاف ما كان يمكن أن يمنحه فرصة الفوز، فتعداد الشعب الفلسطيني، لو افترضنا أنه بكل أفراده سيصوت لعسّاف، ما كان له، أن يتجاوز تعداد الشعب المصري أو الشعب السوري، ولكن الشعوب العربية بما في ذلك مصريون وسوريون، صوتوا لصالح عسّاف، حتى حصل على نسبة تفوق 45% من مجموع الأصوات التي وصلت لصالح المتنافسين الثلاثة.
على أن مجريات البرنامج والتصويت، تشير إلى ظاهرة سلبية ليست قناة الـ "ام بي سي"، ولا المتنافسون، المسؤول عنها، وإنما تراكمات العقود الطويلة السابقة من عصور الاستبداد، وهي ظاهرة التعصب القطري. ومرّة أخرى تنتصر الشعوب على هذه الظاهرة، فتصوت للأفضل دون أي اعتبار للسياسة والجغرافيا، والهُويّة القطرية.
وتشير ظاهرة عسّاف، وكل ما يتعلق بالبرنامج الفني الثقافي الترفيهي، أيضاً، إلى أن هذا الفن ليس معزولاً، وأن الناس الذين يتبنون مثل هذه الثقافة ليسوا معزولين، ولا هم أقلية، وأنا أشير هنا إلى أن هذا الفن هو الابن الشرعي، لثقافة المجتمع المدني، وثقافة، فصل الدين عن الدولة، والابن الشرعي للحداثة، والعصرنة.
عسّاف وحّد الشعب الفلسطيني حين شتتته السياسة، وحمل القضية على أجنحة الريح التي تمخر عباب البحار والفضاءات، واستطاع توظيف اللغة العالمية، أي الموسيقى لكي يبدأ رحلة النجاح في مخاطبة شعوب العالم، التي لا ترغب في سماع لغة السلاح، وأصوات المتفجرات.
ولأن عسّاف، ابن المخيم، كان نجماً ساطعاً فإنه استحق على غير العادة، أن تمنحه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) لقب سفير النوايا الحسنة، وكذلك فعل الرئيس محمود عباس والآمال مفتوحة على ما هو أكثر.
عسّاف عَبر أغانيه شرح القضية الفلسطينية على أفضل ما يكون الشرح المؤثر، وسجل موقفاً واعتزازا بكل مفاصلها، بالبندقية، والتراث، بالأسرى، بالشهداء، بالقدس، بحق العودة.. لقد فرض على الجميع أن يرفعوا فقط العلم الفلسطيني، حتى لم تظهر أية راية لأي فصيل في أي احتفال.