حبيبتي يسرى ... لا تكبري الآن - عيسى قراقع*
يسرى طفلة عمرها شهرين، ولدت بعد اعتقال أبيها عادل حريبات المضرب عن الطعام منذ 23/5/2013 احتجاجا على اعتقاله الإداري، وهي المولود الخامس من بين إخوتها الذين يولدون خلال وجود أبيهم داخل السجن، فلم يشهد ولا مرة ولادة أبنائه على مدار 12عاما قضاها في السجون.
عندما حملتها في حضني ابتسمت، نظرت حولها، وحدقت بعينين جميلتين في كافة الموجودين، ثم أغمضتهما كأنها تحاول أن لا تستوعب النقص في الغياب والحضور.
لا زال والدها يخوض إضرابا مفتوحا عن الطعام، محاولة أخرى لكسر قانون الاعتقال الإداري الجائر، هذا السيف المسلط على رقاب الآلاف من الأسرى، العدو المجهول الذي يحرمك من رؤية أبنائك، يخطفك في أي وقت ودون سبب، ولا تدري مصيرك في المدى المتجدد في زمن الاحتلال.
يسرى لا تعرف أن والدها نقل إلى مستشفى الرملة في وضع صحي صعب، يمشي على عكازات ، متعب ومرهق، وقد فقد وعيه عدة مرات وسقط أرضا وأصيب بجروح ، ولا تدرك أنه يخسر من جسمه اللحم والعظم من أجل أن يعود إليها بسرعة، يراها، يحملها بين يديه، يخاطب من خلال جناحيها الصغيرين جنون الحياة.
يسرى ناغت وكأنها تقول لنا: لماذا لم تنبهوني بان السجن هو أن لا تكون طفلا منذ الآن، وأن تدخل في النسيان كلاما وصمتا وفراغا، وأن تبقى في المخاض إلا أن يعلن السجان قدومك حيا مقيدا أو ميتا في الظلام.
خمسة أبناء أصغرهم يسرى يعيشون في بيتهم الصغير دون أب ، وهذا الأب العائد أبدا إلى السجن، لم يسمع ولا مرة أية زغرودة تشعره أنه صار أبا في بهجة الميلاد والولادة، جميعهم ولدوا وهو في الزنازين ، مشبوحا ، معلقا، معصوب العينين، لا يسمع سوى دقات الأبواب وصراخ أسرى في أقبية التحقيق.
لم يسمع ابنته يسرى، وهو الذي كان يحلم بهذا الملاك الذي ولد في المسافة بين السجن والحلم و دون أن يهبط من سماء، وقد بدأ ينادي عليها الآن جوعا وصبرا، وقرر أن يعود إليها بالحليب والحلوى والألعاب، ويكسر وقت الجلاد وساعة الاعتقال.
حبيبتي يسرى لا تكبري الآن، وابق محلقة هناك كفراشة سعيدة حتى يفقع الجندي المكفهر فوق برج الحراسة، واكتفى بترميم ريشك الناعم ، وعلقيه على خيال الشجرة، ارفعيه قليلا حتى يظهر القمر في سماء سجن عسقلان.
حبيبتي يسرى لا تكبري الآن، لا أريدك أن ترى المستوطنات التي وصلت إلى حيث خطاك، وجنودا مدججين على مرمى من رؤياك يحجبون الشمس، لا أريدك أن تشاهدي بلدا موجوعا ومجروحا يرفض منذ مائة عام أن يدخل في المحاق.
لا تكبري الآن، حتى لا تشهدي مجزرة أو تسمعي صوت رصاص، ولا ترتعبي من ليلة اعتقال ومداهمة بعد منتصف الليل فيغتالون أحلامك، لا أريد أن يجف الحليب من عنب الدالية ومن أضلاع أبيك وهو يصارع الآن الحديد.
يسرى حبيبتي لا تكبري الآن ، لم يصل السلام إلى الأطفال والعصافير ، لا حدائق آمنة ولا نشيدا مكتملا في المدرسة، هي جنازات للسلام وجنازات للحرب والموت واحد، السجون تطفح كما المقابر، والوقت لا يفاوض سوى عذابات كي تكون بلون أجمل.
العبي بالقريب الحاضر وانتظري، بالهواء المتسلل من جبال الخليل، برائحة العنب وحوار الفلاحين، فقد نجوت صدفة، وعليك أن تعطي النجاة لأبيك وهو يعصر أيام السجن بلحمه ودمه كي يعود.
يسرى حبيبتي لا تكبر الآن ، لا تتعلمي العد على الأرقام، فلن تعرفي عدد سنوات المؤبد في نظريات السجن الإسرائيلي، ولن تحفظي عدد المستوطنين المتزايد كل يوم بين التلال والحقول، لن تحفظي عدد الشهداء المتصاعد، فكوني الضوء ، صديقة الغيمة وبشرى المطر.
يسرى حبيبتي، صورتك حياتك القادمة، آثارك لك، أصابعك ملك يدك التي تلعب بالنجوم، لست وحيدة، هناك بستان على قمر، وهناك بوابة على بحر، وهناك ذاكرة حصينة لدى أولاد وبنات فلسطين.
لا تكبري الآن، لا تشاركي مبكرا في اعتصامات أهالي الأسرى أمام الصليب الأحمر، صور كثيرة، وجوه مكبلة وغائبة، دموع أمهات وصرخات،أمل ويأس ، وكرسي متحرك لأسير مشلول أو آخر ينتظر أن يفترسه مرض السرطان.
أنت فكرة زرعها والدك ورحل، فكرة أضاءت واشتعلت وكبرت وملأت المكان بالبياض، وعندما وجه المحقق لوالدك تهما عديدة وباطلة قال لهم: اسألو يسرى ، ابنتي التي جاءت لتقول لكم أن جروحي لا تجف، وإذا ما سقطت بين القضبان فهناك من يحررني من الموت إلى الحياة... هي يسرى.
هناك حلمي الذي لا يكبل، نبرتي ووشمي وهويتي ومن سوف يوشحني بالضباب، هناك يسرى ابنتي التي ستنشر السنابل من بعدي، هناك من يقاوم معي السجن والفناء... هي يسرى.
* وزير شؤون الأسرى والمحررين
haعندما حملتها في حضني ابتسمت، نظرت حولها، وحدقت بعينين جميلتين في كافة الموجودين، ثم أغمضتهما كأنها تحاول أن لا تستوعب النقص في الغياب والحضور.
لا زال والدها يخوض إضرابا مفتوحا عن الطعام، محاولة أخرى لكسر قانون الاعتقال الإداري الجائر، هذا السيف المسلط على رقاب الآلاف من الأسرى، العدو المجهول الذي يحرمك من رؤية أبنائك، يخطفك في أي وقت ودون سبب، ولا تدري مصيرك في المدى المتجدد في زمن الاحتلال.
يسرى لا تعرف أن والدها نقل إلى مستشفى الرملة في وضع صحي صعب، يمشي على عكازات ، متعب ومرهق، وقد فقد وعيه عدة مرات وسقط أرضا وأصيب بجروح ، ولا تدرك أنه يخسر من جسمه اللحم والعظم من أجل أن يعود إليها بسرعة، يراها، يحملها بين يديه، يخاطب من خلال جناحيها الصغيرين جنون الحياة.
يسرى ناغت وكأنها تقول لنا: لماذا لم تنبهوني بان السجن هو أن لا تكون طفلا منذ الآن، وأن تدخل في النسيان كلاما وصمتا وفراغا، وأن تبقى في المخاض إلا أن يعلن السجان قدومك حيا مقيدا أو ميتا في الظلام.
خمسة أبناء أصغرهم يسرى يعيشون في بيتهم الصغير دون أب ، وهذا الأب العائد أبدا إلى السجن، لم يسمع ولا مرة أية زغرودة تشعره أنه صار أبا في بهجة الميلاد والولادة، جميعهم ولدوا وهو في الزنازين ، مشبوحا ، معلقا، معصوب العينين، لا يسمع سوى دقات الأبواب وصراخ أسرى في أقبية التحقيق.
لم يسمع ابنته يسرى، وهو الذي كان يحلم بهذا الملاك الذي ولد في المسافة بين السجن والحلم و دون أن يهبط من سماء، وقد بدأ ينادي عليها الآن جوعا وصبرا، وقرر أن يعود إليها بالحليب والحلوى والألعاب، ويكسر وقت الجلاد وساعة الاعتقال.
حبيبتي يسرى لا تكبري الآن، وابق محلقة هناك كفراشة سعيدة حتى يفقع الجندي المكفهر فوق برج الحراسة، واكتفى بترميم ريشك الناعم ، وعلقيه على خيال الشجرة، ارفعيه قليلا حتى يظهر القمر في سماء سجن عسقلان.
حبيبتي يسرى لا تكبري الآن، لا أريدك أن ترى المستوطنات التي وصلت إلى حيث خطاك، وجنودا مدججين على مرمى من رؤياك يحجبون الشمس، لا أريدك أن تشاهدي بلدا موجوعا ومجروحا يرفض منذ مائة عام أن يدخل في المحاق.
لا تكبري الآن، حتى لا تشهدي مجزرة أو تسمعي صوت رصاص، ولا ترتعبي من ليلة اعتقال ومداهمة بعد منتصف الليل فيغتالون أحلامك، لا أريد أن يجف الحليب من عنب الدالية ومن أضلاع أبيك وهو يصارع الآن الحديد.
يسرى حبيبتي لا تكبري الآن ، لم يصل السلام إلى الأطفال والعصافير ، لا حدائق آمنة ولا نشيدا مكتملا في المدرسة، هي جنازات للسلام وجنازات للحرب والموت واحد، السجون تطفح كما المقابر، والوقت لا يفاوض سوى عذابات كي تكون بلون أجمل.
العبي بالقريب الحاضر وانتظري، بالهواء المتسلل من جبال الخليل، برائحة العنب وحوار الفلاحين، فقد نجوت صدفة، وعليك أن تعطي النجاة لأبيك وهو يعصر أيام السجن بلحمه ودمه كي يعود.
يسرى حبيبتي لا تكبر الآن ، لا تتعلمي العد على الأرقام، فلن تعرفي عدد سنوات المؤبد في نظريات السجن الإسرائيلي، ولن تحفظي عدد المستوطنين المتزايد كل يوم بين التلال والحقول، لن تحفظي عدد الشهداء المتصاعد، فكوني الضوء ، صديقة الغيمة وبشرى المطر.
يسرى حبيبتي، صورتك حياتك القادمة، آثارك لك، أصابعك ملك يدك التي تلعب بالنجوم، لست وحيدة، هناك بستان على قمر، وهناك بوابة على بحر، وهناك ذاكرة حصينة لدى أولاد وبنات فلسطين.
لا تكبري الآن، لا تشاركي مبكرا في اعتصامات أهالي الأسرى أمام الصليب الأحمر، صور كثيرة، وجوه مكبلة وغائبة، دموع أمهات وصرخات،أمل ويأس ، وكرسي متحرك لأسير مشلول أو آخر ينتظر أن يفترسه مرض السرطان.
أنت فكرة زرعها والدك ورحل، فكرة أضاءت واشتعلت وكبرت وملأت المكان بالبياض، وعندما وجه المحقق لوالدك تهما عديدة وباطلة قال لهم: اسألو يسرى ، ابنتي التي جاءت لتقول لكم أن جروحي لا تجف، وإذا ما سقطت بين القضبان فهناك من يحررني من الموت إلى الحياة... هي يسرى.
هناك حلمي الذي لا يكبل، نبرتي ووشمي وهويتي ومن سوف يوشحني بالضباب، هناك يسرى ابنتي التي ستنشر السنابل من بعدي، هناك من يقاوم معي السجن والفناء... هي يسرى.
* وزير شؤون الأسرى والمحررين