رمضان والشيخ الطبال- احمد دحبور
لما كان لكل منا رمضانه الخاص، بذكريات صيامه وسحوره ومناسباته الاجتماعية، فان لي نصيباً أثيراً من عالم رمضان. أبسط ما فيه انني من أسرة متواضعة كان الاطفال يعتقدون جازمين بأنها من تأتي برمضان لتضعه أمام الصائمين، ذلك ان أبي بين مشاغله الاجتماعية والدينية، كان هو الذي يوقظ النائمين للسحور في مخيم حمص، وما زلت أذكر تلك الاشارات التي ما إن يظهر بعضها حتى تعترينا سعادة الاطفال بقدوم رمضان الوشيك، من تلك الاشارات ان أبي كان يحضر الطبل مرفقا بما يشبه نصف الحزام، وهو قطعة من الكاوتشوك يسميها الجلدة، بهدف قرع الطبل لايقاظ المؤمنين النائمين، وكان لا بد، لاستكمال عدة الشغل من تجهيز قطع من السكر الفضي لترطيب حلقه حتى لا يبح صوته من النداء والصلاة على النبي، وأخيرا كان هناك المعطف السميك الذي لا غنى عنه أثناء جولة السحور في أيام الشتاء.
وكان الشيخ خضر ذا صوت شجيّ عميق، حتى ان كثيرين من سكان المخيم ولا سيما النساء منهم، يسهرون حتى يستمتعوا بصوته وهو ينادي على صاحب كل بيت بالاسم: شيخ علي، وحد الله ابو العبد، وحد الله، علي رضوان وحد الله، الى آخر القائمة التي تشمل المخيم كله، اما اذا كان ذلك بيت أرملة او عجوز وحيدة، فانه لم يكن لينادي بالاسم، لأن تقاليد مسكوتاً عنها لكنها حاضرة صارمة تقضي بأن اسم المرأة عورة ومن غير المسموح مناداتها بوضوح، وعندما كان الشيخ يكتفي بالجملة الخالدة: عباد الله وحدوا الله..
وكان في المخيم الذي يضم لاجئين من الجليل الفلسطيني بعض من اهل قرية جليلية يشاع انها تعتنق المذهب الوهابي، فهم يطرحون الزوائد والبدع ويركزون على القرآن الكريم والحديث الشريف المسند فقط، وكان هؤلاء يستهينون بمهنة المسحر ان لم يعتبروها ضربا من الشعوذة، حتى ان بعضهم كان يسمي ابي بالطبال، وبدوره كان الشيخ خضر يعتبرهم عصاة ويدعو لهم بالهداية، لكن بلهجة تضم النقد وعدم المودة، الى ان استوقفه احدهم وهو في احدى جولات التسحير، فقدم له ليرة سورية - تقابل الشيقل تقريبا- وقال: يا شيخ هذه اجرتك، ولكن لا توقظنا فأنا وأهل بيتي نسهر حتى بداية الامساك!!
في اليوم التالي عند صلاة الظهر، تقدم ابي الى منبر المسجد الوحيد في المخيم، واسمه مسجد الامين، فاعتلى المنبر، وخاطب المصلين قائلا: عباد الله وحدوا الله.. لقد حسبني ابو فلان متسولاً وتصدق علي بهذه الليرة، وها آنذا اعيدها اليه أمامكم صدقة مني له ولأولاده، وكان الشيخ علي رحمه الله، هو امام المسجد فصعد المنبر وقد طفح الغضب في وجهه، وارتجل خطبة مؤثرة تشيد بدور ابي في تسحير المؤمنين، وعدّ انتقاد بعض «ضعاف الدين» لهذه المهمة بالعصيان والتكبر والعياذ بالله، وراح الشيخ علي يصف معاناة الوالد وهو يتلقى صفعات الريح ونباح الكلاب ومفاجآت وعورة المخيم، لا لشيء إلا مساعدة المؤمنين على اليقظة المبكرة ليتسحروا ويستعدوا للصيام، احدثت تلك الواقعة ضجة بين كبار السن بشكل خاص، فكأنهم تذكروا أهوال برد الليل وراحوا يثنون على صبر الشيخ خضر الذي يتكبد المشاق لايقاظ المؤمنين، وكأنهم بذلك قد اكتشفوا فجأة أهمية دور المسحر، أما الحاضرون من اهل تلك القرية فقد أخذتهم المفاجأة واعتذروا.
والطريف انني في اعقاب تلك الواقعة البسيطة قد توثقت علاقتي ببعض ابناء اولئك القوم، حتى انني مع الزمن صرت قريبا الى بعضهم ثم انهم زوجوني ابنتهم!
وهكذا صار بعض اهل المخيم يتعاملون معنا كأننا اصحاب رمضان، فأبي هو الذي يعلن عن قدوم الشهر الفضيل، وهو الذي يوقظ النائمين، وهو الذي يبشر بقرب انتهاء موسم الصوم وقدوم العيد، وزيادة على هذا، كان لديه تقليد جميل، هو ان يقدم الطبل في اليوم الثاني من العيد، هدية لأول اسرة تزوج احد ابنائها في المخيم، اما لماذا اليوم الثاني، فلأنه كان مسلحاً بالطبل طيلة ليالي السحور، وهو يحتاجه في اليوم الاول من العيد ليدور على أهل المخيم نهارا ويأخذ منهم ما يعتبره ويعتبرونه حقاً وواجباً، فللمسحر أجر وأجرة.
وحتى يوم الناس هذا، لا يزال الاحياء من كبار السن، يتذكرون الشيخ خضر، ويترحمون على أيام طبله الفريد وأهازيجه الساحرة في ايقاظ المؤمنين، ويرددون: جاء شهر الصيام، أحياكم الله وأحيانا لكل عام.