فرقة اغاني العاشقين الفلسطينية: القصة الكاملة - احمد دحبور
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
لنعترف بان النكبة المروعة التي حلت بشعبنا العربي الفلسطيني عام 1948 قد اوقعت ضررا جسيما في البنية التحتية لهذا الشعب، ولا سيما على المستوى الثقافي وخلال السنوات الاولى للنكبة، فقد كان طبيعيا ان يظهر بيننا روائيون وشعراء وكتاب قصة وصحفيون، ولكن عندما يتعلق الامر بالمؤسسات الثقافية، فقد كان من الصعب ان تعثر على ناد او فرقة فنية متكاملة، او حتى اتحاد كتاب او نقابة صحفية، ولكن ما ان استعادت النخب الثقافية وعيها - بعد ان اكتشفت امكانية ظهورها- حتى اخذت المحاولات تترى، تتعثر حيناً وتنهض حيناً، ولكنها تتشكل باستمرار.
من التجارب الناجحة التي شهدت صيغة ذات طابع جمعي، على المستوى الثقافي الفلسطيني، كانت فرقة «اغاني العاشقين» - حسب الاسم الاول الذي ظهرت به عام 1977- وقد نجحت هذه الفرقة بما يشبه المصادفة، لكن الظروف الموضوعية كانت قد نضجت لاطلاقها.
بدأ الامر حين قررت دائرة الثقافة والاعلام في المنظمة - فهكذا كان اسمها يومذاك - ان تنتج مسرحية «المؤسسة الوطنية للجنون» وهي من تأليف الشاعر سميح القاسم، كان رئيس الدائرة في حينها هو الاخ ياسر عبد ربه، وكان المرحوم عبد الله الحوراني هو المدير العام للدائرة، وكان قد عني بتكليف المخرج المسرحي الكبير الراحل فواز الساجر باخراج المسرحية، فرأى المرحوم فواز ان يزود المسرحية باغنيات ترفد المستوى الدرامي، وقد كلفني بذلك. يومها كتبت نصوصا تتعلق ببنية النص وترتبط باحداثه، الا النص الذي اخترناه مدخلا الى العمل، وكان هو «والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الاخضر»، وقد وفق الموسيقي المقدسي الكبير حسين نازك في وضع اللحن الملائم، حتى اعتقد الكثيرون انه لحن فلكلوري نظراً لابعاده الشعبية وجملته الموسقية المركزية، ونجحت «اللوز الاخضر» شعبيا بصورة لافتة، ما دفع المرحوم أبا منيف، عبد الله الحوراني، لاستدعائنا انا وحسين طلب منا ان نطور التعاون بيننا وصولاً الى تشكيل فرقة فنية. كان ذلك عام 1977 كما اشرت، وأشهد ان أبا علي، حسين نازك قد تحمس للفكرة، وارتجل على الفور اسماً للفرقة المقترحة: اغاني العاشقين.. ولم يصعب عليه جمع الفنيين الذين يمكن الانطلاق بهم، وكان في طليعتهم ابو علي، حسين المنذر.
نواة المشروع
وهكذا تكون فكرة انشاء الفرقة قد نبتت في ذهن المرحوم عبد الله الحوراني اما الذي شكلها فعليا واعطاها اسمها الاولي، فهو ابو علي حسين نازك ،قد بدأ بجمع العناصر اللازمة من الفلسطينيين المقيمين في سورية، اضافة الى بعض الكوادر من السوريين مثل ميزر مارديني الذي تولى مهمة تصميم الرقصات والتدريب عليها، والشقيقين مها وميساء ابو الشامات اللتين عملتا في مجال الكورال، وقد انضمت اليهما - او كانت قبلهما، لا اذكر- مها دغمان التي نجحت في تقديم صوت صولو لافت للنظر والاسماع، ولم تلبث الفرقة ان وفقت بالاهتداء الى أسرة الهباش، المؤلفة من ثلاثة شبان اشقاء: خليل وخالد ومحمد، وشقيقتين: آمنة وفاطمة. وكانت اهمية هذه الاسرة مركبة، فمن جهة كان لوجود فتاتين تعملان مع اشقائهما، أثر في تشجيع الفتيات على الانضمام الى الفرقة، ومن جهة ثانية كان الاخوة بارعين في العزف النوعي: فخالد كان يعزف على القانون والشبابة، وخليل كان بارعا في استخدام الايقاع: الطبل والدف، اما صغيرهم محمد، فهو الذي اطلقنا عليه في حينه لقب الطفل المعجزة، حيث كان ذا أذن موسيقية مرهفة، وصوت غنائي مبشر، فضلا عن دوره الخاص في اداء دور الراوي الذي كان يربط بين الاغنية وما يليها، وفق نصوص كنت اكتبها لهذا الغرض، فاذا كانت الاغنية مكتوبة بالفصحى كان التقديم بالعامية، واذا كانت الاغنية بالعامية يكون التقديم شعرا فصيحا مبسطا.
وبين هذه المجموعة الهامة من الكوادر، اتوقف عند احمد الناجي ومحمد الرفاعي اللذين يتمتعان بصوتين جميلين، صالحين للغناء الفردي ومشاركة الكورال، فضلا عن ان الناجي يجيد العزف على العود، وكان الانسجام بين الغناء والرقص في غاية النجاح، واذا كان ميزر هو الراقص الرئيس فان بثينة منصور كانت الاولى على مستوى الرقص التعبيري، اما شقيقتها هناء فقد ساعدها صوتها المتقن الناعم على المشاركة الفعالة في الكورال مع ان ميزر وبثينة قد نجحا في ادراجها ضمن مجموعة الرقص التعبيري بجدارة.
قد لا تجمع الذاكرة اسماء العاملين جميعاً في هذه الفرقة، ولا سيما في المرحلة التأسيسية عندما كان هؤلاء الكوادر من الجنسين، هما نواة المشروع الذي اوجد اسطورة العاشقين.
ابو علي
من الطريف ان يكون ابو علي حسين هو الاسم النوعي الذي يتكرر مرتين في سجل العاشقين، فقد بدأت هذه التجربة الثرية المثيرة، مع ابي علي حسين نازك، مؤسس الفرقة ومانحها اسمها، وابو علي الذي درس الموسيقى والتأليف الموسيقي منذ ان كان في الاردن، تطورت خبرته اثر ايفاده الى لندن من خلال الجيش العربي، ومنذ بداياته وعى فنياً معنى البناء الهرموني للموسيقى، وتوزيع الاصوات بين بشرية وآلية، ومواءمة الصوت الفردي - الصولو - مع تشكيلة المجموع، اضافة الى مواءمة الآلات الموسيقية الوترية مع الآلات النحاسبة مع الايقاع بمختلف مكوناته. وحين أتى الى سورية وجدت خبراته متسعاً للتعبير عنها في المسرح العربي السوري، حيث كان يضع الموسيقى التصويرية لعدد كبير من المسرحيات في سورية متعاوناً في ذلك مع فنيي المسرح وفنانيه هناك، ولعل اول مبادرة له تجاه عمل فني فلسطيني كان يوم وضع قطعة موسيقية متعددة المستويات بعنوان «الحمة».
والحمة هي بحيرة سورية وقعت تحت الاحتلال وقد شهدت ضفافها معارك والتحامات مع العدو الصهيوني، ومن هذه المعارك موقعة مجيدة اثر اشتباك مجموعة فدائية تابعة لقوات فتح - العاصفة مع العدو، بدعم اكيد من الجيش العربي السوري، الا ان التعاطف العربي العارم مع التجربة الفلسطينية الوليدة، كرسها لحظة نوعية في سجل المقاومة الفلسطينية، اما على المستوى الفني فقد كان استقبال هذا العمل شعبيا ذا طبيعة معنوية، لان الثقافة الموسيقية كانت - وربما لا تزال - عند العرب اقل من ان تكتسب شعبية باللحن المجرد غير المزود بالكلمات، ولكن المهم انها كانت علامة فارقة على طريق البدايات، لا سيما وان ابا علي سرعان ما أنشأ علاقة ناجحة مع صوت الثورة الفلسطينية وكانت مصر عبد الناصر، تبث اذاعة بهذا الاسم دعما للمقاومة الوليدة، ومن المعروف ان اغنيات وأناشيد مبكرة قد ظهرت في هذه الاذاعة، وبينها اعمال لحسين نازك الذي طور اسهاماته الموسيقية حتى بلغت ذروتها في تجربة العاشقين. فقد كانت فكرة تأسيس فرقة مختصة لهذا الشأن، من بنات افكار عبد الله حوراني - ابي منيف، وهي الفكرة التي تلقفها وانطلق بها ابو علي حسين نازك تحت اسم «اغاني العاشقين» ثم لما اتسع المشروع ونجح، استقر الاسم على فرقة العاشقين، لان المشروع تجاوز الغناء الى العرض المركب من غناء ورقص تعبيري.
وهنا برز ابو علي الآخر، حسين المنذر، الصوت الجبلي القوي الذي يجمع القوة الى القدرة على التعبير، ومن الطريف ان هذا الذي اصبح مغني فلسطين الاول، كان ذا لهجة دمشقية متميزة كأنه ابن الشاغور او الميدان، بحيث كانت بعض الاوساط تدعوه بالفنان الشامي، لنكتشف انه لبناني الاصل فهو عربي لبناني، وهو بطبيعة الحال، شامي اللهجة، فلسطيني الغناء والاداء، فهو مشروع عربي فلسطيني شامي لبناني بامتياز، وقد اصبح الايقونة التي اهتدى اليها حسين نازك ليتكرس رمزا للمشروع الطالع كالصاروخ الفني باسم العاشقين.
مدخل التلفزيون
كانت في طليعة اهتمامات دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، ظاهرة العاشقين التي تعززت عندما بدأ الراحل عبد الله الحوراني، مدير عام الدائرة ورئيسها فيما بعد، يعمل على نشاطات ثقافية بأبعاد مركبة، فهو صاحب فكرة الانتاج التلفزيوني وقد تمت التجربة الاولى بدعم من دولة الامارات العربية المتحدة، التي انجزت مسلسل الدائرة الاول وهو «بأم عيني» ووقائع هذا المسلسل منقولة عن كتاب فيليتسيا لانغر، المحامية اليهودية الشيوعية التي ادلت بشهادات تفصيلية مؤثرة عن نضال الطلائع الفلسطينية الفدائية، وقد كان لكل حلقة من هذا المسلسل قصة مستقلة تتعلق بفدائيين معروفين وقعوا في الأسر الصهيوني وكثير منهم لا يزالون على قيد الحياة.
ولما كان حسين نازك، بطبيعة الحال، واضع موسيقى المسلسل بحلقاته الخمس عشرة، فقد كان طبيعيا ان يوظف لذلك، عناصر فرقة العاشقين التي كان قد انتهى لتوه من تشكيلها، وكان الشاعر الراحل صلاح الدين الحسيني ابو الصادق هو من كتب نصوص الاغاني، الا واحدة، هي اللوز الاخضر التي كنت ألفتها سابقا كما أشرت.
تميز شريط بأم عيني - فهكذا صار اسمه - بالأغنيات القصيرة المكثفة، ذات الجرس الموسيقي الذي اشتقه ابو علي نازك من الفلكلور حيناً ومن تأليفه الشخصي حيناً آخر، وكان الشريط لافتاً بتجانس موضوعه المتعلق بالاسرى، مما زوده ببعد درامي ذي شعبية ملحوظة.
حتى اذا انتجت دائرة الثقافة مسلسلها الثاني «عز الدين القسام» كانت التجربة قد نضجت واكتسبت جمهورا كبيرا ونوعيا، وقد كتبت هذا المسلسل معتمدا على التواريخ المدونة والشفوية وتوسعت في رسم شخصية الشاعر نوح ابراهيم الذي كان ابي يعرفه ويحفظ أناشيده، وقد تم اسناد دور الشاعر الشهيد نوح ابراهيم في هذا المسلسل، لأبي علي حسين منذر الذي أجاد ممثلا، ومغنيا بارعا بطبيعة الحال.
ومع ان المسلسل من تأليفي، الا ان معظم اغانيه كانت من كلمات الشاعر ابي الصادق رحمه الله.
حتى اذا وقع العدوان الصهيوني الشهير على لبنان 1982، كنت اكتب نصوصا جديدة اعطيتها عنوان «الكلام المباح» ولعل هذا العمل كان مفتاح النجاح الواسع للعاشقين بألحان حسين نازك وصوت حسين المنذر، واتساع قاعدة الفرقة، حتى ليمكن القول ان «الكلام المباح» ولا سيما بعد الاستقبال العاصف الذي شهدته عدن، اصبح الكلام الذي وضعنا في مستوى لا يمكن التراجع عنه او حتى الاكتفاء به.
ظريف الطول
ولأن الامر كذلك، فقد حان الوقت ليقدم ابو الصادق، رحمه الله، عمله الكبير «مغناة دلعونا وظريف الطول» وهو عمل ذو طابع ملحمي يشتق من الشخصيتين الشعبيتين ظريف الطول ودلعونا دراما فريدة، تصور تاريخ الشعب الفلسطيني من خلال شقاء ظريف الطول وترحاله في البلاد وتحمله ظلم ذوي القربى، واصراره على استعادة حبيبته دلعونا التي جعلها رمزا مركبا لفلسطين كلها تارة وللقضية الوطنية بشكل عام تارة اخرى، واهمية هذا العمل انه كان قابلا للاضافة من خلال ما يستجد من وقائع وأسئلة على التجربة الفلسطينية، وكما تألق ابو علي نازك في تلحين هذه المغناة وتغذيتها بمحفوظاته من الألحان والترديدات الشعبية، فقد تألق ابو علي المنذر بالاداء الجميل والصوت الذي لا يشيخ. وكانت تلك مناسبة ايضاً لتقدم مها دغمان اجمل ما لديه فتتألق وتجوهر وتبدع، اضافة الى عنصر جديد هو الراوي الذي يربط بين الاحداث ويمهد لاغاني العمل، وقد تولى دور الراوي اثنان لا واحد، فمن جهة واصل محمد هباش الذي نضج صوته مع نضج رجولته، وحسين ابو حمد رحمه الله الذي كان يؤدي دور الشاعر فيلقي بعض ما كتبه ابو الصادق خصيصاً وبعد نتاج الارض المحتلة من شعر محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران، واذا كان الراوي من خلال الهباش يغني فانه من خلال ابي حمد كان ينشد، وكان العمل بمجمله يسحر الجمهور.
عند هذه المرحلة افاد ابو علي نازك من الشاعرين العربيين السوريين حسين حمزة وميخائيل عيد واشعارهما العامية الشجية المؤثرة، كما واصلت وكذلك ابو الصادق تقديم نصوص بعضها تابع لظريف الطول وبعضها مفتوح على الاحتمالات الفنية، وفي هذه الفترة - ونظرا لانكار الذات - صار امر التأليف يلتبس علينا، فلا نعرف كاتب هذه الاغنية او تلك وقد قال احمد الجمل - ابو محمود رحمه الله، وكان الامين العام لدائرة الثقافة- ان اغنية «على ما قال المعنى» من تأليفي انا، فسألته كيف عرفت؟ فقال لي: لانك تقول فيها: «ما عاد فينا نستنى»، وهذه الـ «ما عاد» فينا هي من تأثير اللهجة السورية فيك حيث تربيت، ولا يمكن لابي الصادق «الغزاوي» ان يقول: ما عاد فينا.. ولكن اذا كشفت المصادفة قائل هذه الاغنية، فان عشرات الاغاني كانت تتداخل ويضيع صاحبها، فنكتفي بأنها من تأليف العاشقين.
هذه التجربة
يقولون في أمثالنا: ان الاخفاق يتيم، اما النجاح فله ألف أب، والواقع ان آباء العاشقين غير المختلف عليهم معروفون فهم ابو علي حسين نازك وابو علي حسين منذر وسها دغمان والمصمم الراقص ميزر مارديني ومعه بثينة منصور، من غير ان نغفل دور محمد هباش الذي تزوج اثناء العمل من هناء منصور، شقيقة بثينة وتلميذتها البارعة في الرقص التعبيري، ولن أنسى احمد الناجي عازف العود البارع والمغني المتميز، وقد تزوج بدوره من سها دغمان، وعلق حسين نازك مازحاً: كنا فرقة العاشقين فصرنا فرقة المتزوجين.
ليس معنى هذا ان من لم اذكرهم لم يكونوا من عظم رقبة العاشقين، فقد كان الجميع يستقبلون تحية الجمهور بعد نجاح حفلاتهم او طبع ألبوماتهم، ولكنني خصصت بالاهتمام من ذكرت لان هؤلاء كانوا حاضرين دائما في العروض كلها، سواء أكانت مشاهدة عياناً، أم مسجلة بالصوت والصورة، ولانك لا تستطيع ان تستحم بمياه النهر مرتين، فان هذه التجربة الفريدة لم تتكرر الا من خلال تجديد نشاط الفرقة فقد اعترتها احيانا بعض الانشقاقات، ولكن المياه كانت تعود الى مجاريها ليدخل في الذاكرة والوجدان الشعبيين اسم العاشقين.
مع الاعتذار عن اي سهو غير مقصود فالشمس لا يحجبها غربال الذاكرة.