سيدرا وخرابيش الموت
في الحرب كل شيء مؤلم ...ان كنت مبدعا فعليك أن تقتبس الأمل من لاشيء, هكذا يفعل أولادنا في مخيم اليرموك ... حكاياتهم لا تنتهي ....
17/12/2012 كان يوم خروج أهالينا من مخيم اليرموك أي قبل أن يبدأ الطلاب امتحانات الفصل الدراسي الأول, علما أن ابتداء هذه السنة الدراسية قد تأخر بسبب وجود النازحين من المناطق المجاورة في مدارس المخيم عدا أن أغلب الطلاب لم يستطيعوا متابعة دروسهم قبل خروجهم من المخيم بسبب الأوضاع الأمنية السيئة آنذاك..
اعتقدنا في البداية أن الحياة توقفت في المخيم و غدا هم الناس هو فقط البقاء على قيد الحياة, لكن يبدو أن الشمس لم تشرق إلا لأجلهم..
بدأت الحكاية بحوالي أربعين إلى خمسين أستاذا من مخيم اليرموك، هؤلاء جعلوا بمبادرات فردية طاهرة الحقيقة تتغلب على نجاسة الحرب، لتفتح بفضلهم و إيمانهم برسالتهم ستة مدارس غير رسمية، إضافة إلى مدرسة ثانوية وحيدة، افتتحت بتكليف نظامي حكومي.
وبذلك أصبح لدينا ما بين 1800 إلى 2000 طالب ارتادوا المدارس وتحدوا الموت فلم يكن من المعقول أن يذهب تعب هؤلاء العظماء سدى بعدما كثرت الأحاديث في البداية عن عدم اعتراف رسمي بهؤلاء الطلاب أو امتحاناتهم، فقررت لجنة التربية والتعليم التي تشكلت في المخيم من قبل الناشطين ـ تشكلت لجان مختلفة في المخيم للعديد من مجالات الحياة ـ، مقابلة رئاسة "الأنروا" باسم الهيئة الوطنية الأهلية لمخيم اليرموك -التي انبثقت عنها لجنة التعليم- مع رئيس الهيئة العامة لللاجئين الفلسطينيين وقبل فعلا مدير التربية بالوكالة بالاعتراف رسميا بهذه المدارس شريطة أن تكون امتحانات موحدة بمواعيد محددة وتوكلت لجنة التربية والتعليم بادخال أوراق الامتحانات الى المخيم , لكن يبدو أن الحرب حاولت تحديهم مرة أخرى حيث عاش المخيم فترتها سبعة أيام بدون كهرباء، مع إيقاف الدخول والخروج من وإلى المخيم بسبب تردي الأوضاع الأمنية، فلم يكن باليد حيلة سوى الحصول على أسئلة الامتحانات عن طريق البريد الاكتروني, حيث كانت منطقة الريجة المنطقة الوحيدة التي تصل إليها الكهرباء لحسن حظ طالبي العلم, وبالفعل تمت طباعة أوراق الامتحانات وتم نقلها إلى مراكز الامتحانات بواسطة ثلاث "بسكليتات" وعربة خضرة مبنشرة (ثلاثة دواليب) التي لم تسلم هي الأخرى من حقد النار حيث وجهت لها ثلاث رصاصات أثناء ذلك, وبعد حوالي أسبوعين سلمت الأوراق للتصحيح.
مشوار شاق كان على الطلاب والأساتذة، لم يرهقهم أو يمنعهم عن تسليم صور مصدقة للجلاء (وثيقة نتائج الامتحانات الفصلية) وإقامة حفلات النجاح وشراء هدايا للطلبة، الذي شارك بتقدمتها صاحب أحد المحلات في المخيم بـ 400 ل.س عوضا عن 3000 ل.س، ويبدو أن هناك العديد من الأبطال المجهولين الذين شاركوا في سيرورة العملية التعليمية في مخيم اليرموك في ظل هذه الظروف كالذين قاموا بتقدمة مجموعة اللقاحات الضرورية لأطفال المدارس، و هؤلاء الذين قاموا على عمل العيادة المجانية لهم.
لكن المشوار كان مرهقا أكثر لطلاب شهادتي الإعدادي والثانوي الذين تابعوا دروسهم في مدرسة عبد القادر الحسيني وروضة المرام وجامع فلسطين، ومع اقتراب موعد الامتحانات تم تقدمة عدة اقتراحات للهيئة العامة لللاجئين الفلسطينيين ، منها أن يتقدم الطلبة للامتحانات ضمن مراكز رسمية تفتتح في المخيم، واقتراح آخر يقضي بنقل الطلاب من داخل المخيم بواسطة حافلات إلى مراكز امتحاناتهم خارج المخيم، فأتى الرد برفض هذين الاقتراحين وغيرهما، وبعد إقفال الحاجز في منطقة الجسر، أمام أهل المخيم، لمدة سبعة أيام بسبب سوء الأوضاع الأمنية داخل المخيم، هنا فكرت الهيئة التعليمية بتقديم مقترح جديد، يؤمن من خلاله مركز إيواء خارج المخيم، يجهز لإقامة الطلاب خلال فترة امتحاناتهم، وقد تم فعلا قبول هذا الاقتراح لتكون بذلك مدرسة فلسطين (الأليانس) ومعهد سعيد العاص، مركزي إيواء لحوالي 160 طالب إعدادي و160 طالب ثانوي بين ذكور وإناث, هذا المأوى الذي استقبلني فيه الأستاذ يحيى العشماوي ليزودني بكل المعلومات السابقة حيث كنت على موعد معه هناك لكن حين وصولي وجدته نائما من شدة الإرهاق والمعاناة التي واجهها ذلك اليوم بعد فشل إدخال طلبة البكالوريا الذين أنهوا امتحاناتهم إلى المخيم، فقد كانت يومها الاشتباكات والأوضاع الأمنية سيئة للغاية، خاصة بعد أن قتلت عبوة ناسفة طفلين عند مدخل المخيم، ويومها أيضا بدأ حوالي عشرون طالبا إضرابا عن الطعام تضامنا مع أهاليهم في المخيم .
الأستاذ عشماوي الذي أدهشني حين عرفت أنه أستاذ رسم، وفنان تشكيلي و كأن المبدعون يزيدهم الألم إبداعا, يجيبني حينما سألته عن التفاصيل التي تجمع الطلاب فقال لي: "رغم سوء وضعهم المادي إلا أنه إذا أضاع أحدهم مصروفه، كانوا يجمعون من مصروفهم الخاص ليعوضوا صديقهم".
لفتتني يومها غرف الشباب التي كانت أشبه بأحد غرف مخيمنا على سطح أحد الأبنية، والتي كان يجتمع فيها الأصدقاء خاصة أثناء الامتحانات, نفس الدفء ونفس الفوضى ونفس العزيمة ونفس اللمة.. ضحكاتهم تشبه الأمل.. بل وأجمل.
لو كان أفلاطون بيننا اليوم، وعرف أن لدى شعبي ثلاثة طلاب استشهدوا عند خروجهم من صفهم وانجرح أستاذهم وصديقهم وأصر هذا الأخير أن يذهب في اليوم التالي إلى المدرسة بيده اليمنى المصابة و يكتب باليد اليسرى، لكان اختار اسم هذا الطالب ليسمي به مدرسته بدلا من اسم أكاديموس.
سأبتعد عن المخيم قليلا لأحدثكم عن أروع فتاة فلسطينية "سيدرا" التي نزحت من هناك إلى صحنايا.
و التي التحقت بالمدرسة إلا أن النار التي تأكل كل شيء جميل في الحرب لم تحب يد سيدرا المبدعة فاغتالتها بقذيفة وهي تلعب أمام منزلها، لكن الغريب أنها كانت تصرخ ألما وتبكي لأن القذيفة لم تنتظرها حتى تكتب وظيفتها ذلك اليوم.
سيدرا التي سمرتها أجمل من سمرة الأرض, كانت تصر على إخراجها من المستشفى لتلتحق بزميلاتها، وعندما وصلت إلى البيت سألت أمها، هل يكفيني الوقت للذهاب إلى المدرسة؟ فوعدتها أمها لتسكتها باصطحابها في اليوم التالي, لم تتوقع الأم وقتها أن ابنتها ستنهض باكرا في اليوم التالي لتذهب إلى مدرستها، بالتالي لم يكن أمام أم سيدرا خيار سوى أخذ ابنتها فرافقوها أهلها خوفا عليها اعتقادا منهم أن منظر يدها سيحرجها، لكن ما أحرجني أنا شخصيا وما قد يحرج أي شخص يعرف سيدرا هو عظمة هذه الطفلة التي دخلت الصف رغم مصابها مشتاقة لأصدقائها، وأكملت فصلها الدراسي بيدها اليسرى حيث رفضت أي مساعدة من أساتذتها بالكتابة حتى عرضوا عليها أن تقدم الامتحانات شفهيا لكنها رفضت أن تكون أقل من زميلاتها لتنجح سيدرا إلى الصف الخامس بتفوق.
أهالي الطلاب ليسوا أقل بطولة من أولادهم وأساتذتهم، فأم عيسى التي نزحت بولدها الأصغر من المخيم تاركة ورائها عائلتها و أولادها متنقلة من بيت لبيت كي لا تثقل حملها على أحد و التي كانت تعمل في مشاغل الخياطة مقابل مدخول أقل ما يقال عنه حقير عدا العمل التي كانت تصطحبه معها بعد انتهاء الدوام , كانت توجه لها عبارات جارحة ملامة على تركها لعائلتها في المخيم , أم عيسى لم تكترث فكان لديها هدف واضح يستطيع أن يشعر به كل من عرفها في تلك الفترة , "ورد" هو اسم ابنها التي خرجت به خوفا عليه من الخطر و خوفا على دراسته ,كانت مهووسة بهذا الموضوع لدرجة أن لا حديث لها الا الاستفسار عن أساليب نجاح ورد لتعتقد لوهلة أنها أستاذة في التعليم منذ سنين و تعتقد أنها تنتظر شهادة الجامعة من ورد .
في آخر فترة و كأنها الفترة الأصعب على ورد و أمه فترة الامتحان , حيث أصبخت تنام في المشغل مع ابنها بناءا على طلب صاحبة العمل وأنهى ورد امتحاناته فعلا لتأخذه أمه الى المخيم و يلتم شمل العائلة من جديد , أحضرت الجارة الجلاء للأم لينجح ورد بتفوق الى الصف الخامس من مدرسة صحنايا المنطقة التي نزحوا اليها و كانت فيها رحلة أم عيسى التي هي أعظم من رحل الطلاب المغتربون لطلب شهادة الدكتوراة .
نجحوا أولادنا رغم عن أنف كل أنواع الأسلحة الطائشة التي تستهدف أحلامهم.
سيدرا والاسم الصحيح هو "سدرة المنتهى" هو اسم شجرة النبق القريبة من عرش الله, اليوم في هذه الحرب كل أبطال الحكايات هذه هم كتلك الشجرة الشامخة أمام عرشه.
يكتبون بأرواحم بعض كتابات التاريخ لتعلو أمام خرابيش الموت والحرب التي لا نفهم منها سوى الفراغ الملطخ بالدم، حتى الفراغ الأحمرتستطيع سيدرا أن ترسم عليه بغصن الزيتون حمامة وطني.
هلا تيسير أبوبكر