فيلم محروق! - د. صبري صيدم
لا أريد التعرض في هذا المقال لموقفي الشخصي من المفاوضات ولا أريد الحديث عن مشاعر الناس تجاه ذلك. لكن من الواضح أننا نعيش اليوم فيلما محروقا سبق وأن عشناه في الماضي، يشارك فيه أبطال اعتدنا على مراوغتهم ومكرهم تقودهم آلة إعلامية ضخمة تستخدم التكتيك والكر والفر وتستقدم سيناريوهات مختلفة سبق وأن ألفنا بعض تقليعاتها وغيرها من التقليعات التي لم نألفها من قبل.
إسرائيل بطلة هذا الفيلم المتكرر تعود من جديد بحديث أجوف عن 'السلام' وعن 'التنازلات المؤلمة'، وترحب 'صوريا' بالدعوة للعودة للمفاوضات بعد أن انهارت الحجة التقليدية بأن 'إسرائيل جاهزة للمفاوضات لكن الفلسطينيين هم من يتمنعون'!
الآن وقد عاد الفلسطينيون بناء على تطمينات أميركية عادت إسرائيل إلى السيناريو المألوف بالإعلان عن البناء والتوسع في المستوطنات، فإذا واجهها العالم محتجا على تصرفاتها فإنها ستقول إن إعلانها ينضوي على البناء في المستوطنات القائمة ضمن المفهوم المزعوم 'بالتوسع الطبيعي'، ولو واجهها الفلسطينيون بالاحتجاج على نهمها الاستيطاني وقرارهم بعدم العودة للمفاوضات فستعود لتزعم من جديد بأن الفلسطينيين هم من 'يرفضون السلام' والدليل هو 'انسحابهم'.
حقيقة الأمر أن إسرائيل وفي هذه الجولة الجديدة من المفاوضات ربما تنطلق من أرضيات ثلاث تشعر وبصورة لم يسبق لها مثيل بأريحية غير مسبوقة في إسناد المفاوضات إليها، وذلك نتيجة عدم إلزامها خطيا بالمطلوب. أولى تلك الأرضيات هي عدم اعتبار وقف الاستيطان شرطا، وثانيها أن الدولة الفلسطينية وإن ولدت فلن تكون بالشكل الذي حددته قرارات الشرعية الدولية، وثالث الأرضيات هو أن حل الدولتين لن يستند إلى حدود الرابع من حزيران أبدا.
وربما تكون توصية لجنة المتابعة العربية الأخيرة بتعديل المبادرة العربية بتضمينها قبولا واضحا بمبدأ تبادل الأراضي قد مهدت لهكذا أرضيات. لذا لست واثقا إذا ما كانت فلسطين بحاجة لهكذا توصية وهكذا توجه.
فالنحو بمنحى يقوم على إبداء حسن النوايا لهو مشابه لوجودك في بيت لثعالب سائبة، فما أن تفتح جزئيا نافذة مركبتك وأنت تتجول بينها لتلامس عالمها، حتى تنقض عليك مســــــتفيدة من إعطائك إياها فرصة جزئية.
ما يعزز توجهات إسرائيل هذه لا ينطلق فقط من مفهوم المناورة واسترضاء ائتلافها الحكومي والتأكيد صبيحة كل يوم على أنها صاحبة القرار الأول والأخير فحسب، إنما قناعتها بأن ليس هناك قوة واحدة في العالم أكبر منها فهي إمبراطورية الكون التي يحق لها ما لا يحق لغيرها.
حتى المساعي الأميركية بخصوص الأسرى وما أعلن عنه من قائمة تصل إلى ما يزيد عن مئة أسير بقليل، باتت مدعاة للكر والفر ومنصة للتجبر على الفلسطينيين بربط تنفيذ جولات إطلاق سراح قادم للأسرى بالتقدم المنتظر في عملية السلام.
ولا أستغرب القول لاحقا وفي ظل ردود فعلنا على المزيد من التعسف الإسرائيلي، إن أيا من الجولات الباقية لن ينفذ، وبالتالي تصبح الجولة الأولى هي الجولة النهائية.
أمام هذا الفيلم المتكرر والسخيف والمحروق سلفا، لا بد من تحديد خيارات فلسطينية متاحة والإصرار عليها في حال أصرت إسرائيل على طغيانها، تشتمل على استئناف محتمل للتفكير في التوجه إلى محكمة الجنايات الدولية، وتحقيق المصالحة الفلسطينية، ومراجعة احتمالية حل السلطة والإعلان عن فض الأرضيات التي أسندت إليها عملية السلام واعتبارها لاغية.
كلام يقرأه البعض ويرى فيه مراهقة وتهورا سياسيا ومقامرة غير محسوبة العواقب وارتجالا غير مقبول. ما أقوله في هذا السياق لهذا البعض بأن 'تهورا' فلسطينيا اليوم سيوقف لا محالة استماتة إسرائيلية نحو دفعنا 'للتهور' والانتحار والانهيار دونما رجعة! فهل ننتظر بقية تجليات الفيلم المحروق؟.