الإعلان عن مراسم وداع وتشييع القائد الوطني المناضل الكبير اللواء فؤاد الشوبكي    "مركزية فتح": نجدد ثقتنا بالأجهزة الأمنية الفلسطينية ونقف معها في المهمات الوطنية التي تقوم بها    17 شهيدا في قصف الاحتلال مركزي إيواء ومجموعة مواطنين في غزة    الرئيس ينعى المناضل الوطني الكبير اللواء فؤاد الشوبكي    سلطة النقد: جهة مشبوهة تنفذ سطوا على أحد فروع البنوك في قطاع غزة    و3 إصابات بجروح خطيرة في قصف الاحتلال مركبة بمخيم طولكرم    الرئيس: حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة سيسهم في بقاء الأمل بمستقبل أفضل لشعبنا والمنطقة    "استغلال الأطفال"... ظاهرة دخيلة على القيم الوطنية وجريمة يحاسب عليها القانون    "التربية": 12.799 طالبا استُشهدوا و490 مدرسة وجامعة تعرضت للقصف والتخريب منذ بداية العدوان    الاحتلال يشرع بهدم بركسات ومنشآت غرب سلفيت    الاحتلال يعتقل شابا ويحتجز ويحقق مع عشرات آخرين في بيت لحم    10 شهداء في استهداف شقة سكنية وسط غزة والاحتلال يواصل تصعيده على المستشفيات    استشهاد مواطن وإصابة ثلاثة آخرين خلال اقتحام الاحتلال مخيم بلاطة    الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد بالأغلبية قرارين لدعم "الأونروا" ووقف إطلاق النار في غزة    الاحتلال يعتقل 10 مواطنين من الضفة بينهم مصاب  

الاحتلال يعتقل 10 مواطنين من الضفة بينهم مصاب

الآن

أمـــــــي- باسم يوسف


«أنا خايفة عليك»
أكثر جملة كانت تقولها أمي في كل مرة نختلف فيها.
«أنا خايفة عليك»
أكثر جملة قيلت في كل مرة ثار بيننا خلاف. كانت تكررها كثيرا حين فضلت ان اسافر بدلا من ان ابقى في مصر واتزوج اولا «زي كل اللي في سني». تأخر بي سن الزواج وكانت أمي لا تهتم إن حصلت على الماجستير أو الدكتوراه أو إن أنجزت أي شىء على المستوى المهني المهم أن ربنا يهديني وأتزوج.
«أنا خايفة عليك»
ظننت ان هذه الجملة سوف تتوقف بعد أن أتزوج ولكن جاء دخولي للمجال الاعلامي مصادفة ليزيد خوفها وقلقها. كانت قلقة على ان آرائي ستسبب لي المشاكل في فترة مضطربة في وطن مضطرب لا احد فيه يعلم أي شىء الا شىء واحد فقط: ان الكل خائف، الكل مرعوب. وفي فترات الخوف والرعب يختفي المنطق ويتحكم العنف والغضب والعشوائية في تصرفاتنا.
«أنا خايفة عليك»
قالتها حين هاجمت الاعلام والمجلس العسكري والاخوان والرئيس.
مع انها كانت تفتخر بي امام اصدقائها الا ان الخوف والقلق كانا ما يحدد علاقتنا دائما.
كأن الأم وجدت في هذا العالم لتقوم بهذه المهمة فقط: الخوف علينا.
«انا عايزاك تدخلني على النت»
مع أنها أستاذة جامعة مخضرمة والتعليم هو مجالها الا ان الانترنت كان هو التحدي الاكبر بالنسبة لها. بعد ان قطعنا شوطا كبيرا فى ان تفهم موضوع البريد الالكتروني، قررت بعد الثورة وبعد ان بدأ البرنامج على اليوتيوب ان تتعرف على اليوتيوب ومعه الجانب المظلم من الانترنت: الفيس بوك وتويتر وعالم التعليقات المريع.
«يرضيك أمك تتشتم؟»
لم تصدق كم البذاءات التي كانت تقرأها على الانترنت والتي تبدأ بـ «يا ابن....»
كانت تأخذ هذه الشتائم بشكل شخصي وفشلت محاولاتي في ان اشرح لها ان عالم تعليقات وشتائم الانترنت ما هو الا مستنقع كبير تتكاثر فيه شخصيات لا حياة لها ولا هم لها الا شتيمة خلق الله. لم تفهم لماذا يشتم الناس بهذه الطريقة ولم تفهم لماذا يسب الناس شخصا بأمه لمجرد أن رأيه لا يعجبهم أو لمجرد أنهم لا يضحكون على ما يقول.
حين انفجرت بالوعة الشتائم في وجهنا لم أستطع ان افعل شيئا لتهدئة أمي. كانت غاضبة وهذا الشخص الشتام يلف على القنوات لا ليشتمني ولكن ليشتم أمي لا ليواجه سخرية بسخرية بل ليخوض بدناءة منقطعة النظير في الاعراض. شخص كل مواهبه الشتيمة والقاء البذاءات على الناس وتكرار كلمة «أمك» كل خمس ثوانٍ لأن هذا هو «تمامه» الذي يترجم عجزه إلى هجوم على أعراض الناس بدلا من مواجهتهم كالرجال.
لم تصدق أمي ان تجتمع صفات مثل الحقارة وقلة الأدب والكذب في شخص واحد بهذه الطريقة.
«هو بيجيب سيرتي ليه؟»
تساءلت متعجبة وهو يشتم ويفتري ويقول انه كلمها أو يعرفها.
حين قررنا اتخاذ الاجراءات القانونية لمقاضاته بتهمة السب والقذف رفضت أمي وقالت: «انا ست كبيرة، لا اقبل ان أكون محور قضية يذكر فيها اسمي مع هذا الشخص. انت عارف القضايا بتاخد قد ايه. انا مش حمل الهم ده».
حين حاولنا اقناعها ردت بجملة واحدة: «ربنا حياخدلي حقي».
نجلس انا واخي في السيارة التي تقطع بنا الطريق إلى الساحل الشمالي. ابي وحده هناك ينهي الاجراءات في انتظارنا لنعود به هو وجثمان أمي إلى القاهرة. لا يوجد أي كلام يقال. يحاول كل منا ألا يبكي بصوت عال حتى لا يبدأ الآخر في البكاء ايضا. كنا نبكي «الى الداخل».
لاحقا سوف تنفجر كل هذه الدموع.
كلما تكلمت مع أمي في السياسة تتوتر المكالمة. «مش عايز اتكلم في السياسة» كانت هي الجملة التي انهي بها المكالمة بعد ان تتوتر.
«انا خايفة عليك»
كان ردها دائما لخوفها ان تجلب آرائي المشاكل. في اقل من سنتين تم اتهامي بأنني متآمر وخائن واخواني وطابور خامس وكافر وماسوني وعميل وتلقيت تهديدات بالقتل والتفجير ومعها يتم شتمها هي بدون ذنب.
توترت مكالماتنا في الفترة الاخيرة بسبب السياسة التي فرقت بين العائلات والأسر. في ليلة وفاتها تكلمنا في كل شىء الا السياسة. تكلمنا في اليوم العاصف الذي مر عليهم في الساحل الشمالي وكيف أثر ذلك على شجرة الجهنمية التي زرعتها بيدها. تكلمنا عن نادية الصغيرة وعن شقاوتها. لا اعلم ان كنت سميتها نادية لأنني أحب هذا الاسم أم انها خطة خبيثة لأنال رضاها عني وعن زوجتي للأبد.
«راجعة امتى القاهرة؟»
«مش راجعة، أرجع ليه؟»
قالتها بحزن وبعفوية بسبب ما تشاهده على التلفاز من قرف سياسي يومي.
أمي لم ترجع فعلا.
منذ سنوات طويلة توفيت جدتي بعد صراع طويل مع المرض والشيخوخة والألزهايمر.
«أوعوا تخلوا حد يشوفني كده»
كانت هذه وصيتها لنا في حالة ان تدهورت صحتها الا يراها أحد. هذه المرأة القوية العنيدة لم تحب ان تظهر ابدا بمظهر ضعف. حتى حين نصحها الاطباء بأن تستخدم عكازا بسبب التهاب الأربطة المزمن في كاحلها فضلت ان تتحامل على نفسها لأنها اعتبرت ان وقوفها أمام الطلبة بمساعدة عكاز يؤثر على «البرستيج» الذي تحب دائما ان يحيط بها.
تجنبت أمي مصير جدتي، قامت لصلاة الفجر
ثم نامت ولم تستيقظ.
«دي موتة أنبياء»
قالها السائق البسيط ليخفف عني.
نعم ذهبت أمي بهدوء وسلام ولم تعان كما تمنت بالضبط. كم هو شىء جميل وهادئ لها. كم هو شىء مفاجئ وقاسٍ وصادم وفاجع ومؤلم لنا.
كده؟ تمشي وتبعدي كده؟
ينخرط اهل المتوفى في طقوس وأفعال كثيرة أثناء الغسل والدفن والعزاء. يؤمنون انهم بذلك يخففون عن الميت ويثبتونه. ولكننا في الحقيقة نفعل ذلك للتخفيف علينا نحن. ندعو الله ان يثبت الميت عند وفاته ولكن في داخلنا نريد من الله ان يثبتنا نحن.
الا ندعو له «اللهم بدله أهلا خيرا من أهله»؟
أي انها الآن في مكان ومع ناس خير منا ولا تحتاجنا ولا تحتاج لطقوسنا.
نحن من نحتاج اليها.
هي رحلت ولم يعد لجسدها قيمة الا لنا نحن لنتجمع حوله ونمارس طقوسنا وشعائرنا لنوهم أنفسنا بأهميتنا أو ان ما نفعله سيحدث فرقا.
يزداد البكاء للداخل وينفجر على فترات ونتساءل هل لهذا المخزون من الحزن نهاية.
يأتي الناس لتقديم واجب العزاء وتقال نفس الكلمات بطريقة ميكانيكية: «البقاء لله»، «البقية في حياتك»، «شد حيلك». نتجاوب بطريقة اكثر ميكانيكية فنردد كلمات بتلقائية «شكرا»، الحمد لله»، ان شاء الله». أو نصمت أو ننفجر في البكاء.
هناك أشياء لابد من فعلها، كتابة النعي، اجراءات الجنازة والعزاء.
متى قرر الجنس البشري أن يغرق نفسه في تفاصيل دنيوية في وسط حدث لا يمت للدنيا بصلة؟
يقولون ان الحزن يبقى ولكن تخف وطآته. ولكن ماذا عن الاشياء التي تذكرك بها فيخرج منك كل هذه الدموع التي كنت تبكيها إلى الداخل.
الموضوع أكبر من أماكن وضعت فيها بصماتها الواضحة وأكبر من أشياء كنا نفعلها سويا. فكل شىء حولك هو لها. الآثاث في المنزل الكبير، الحديقة التي زرعتها بنفسها في الساحل. نجلس انا وأبي وأخي لنتجاذب اطراف الحديث فنبذل جهدا مضاعفا لنأتي بحديث لا تكون هي محوره. كيف يحدث ذلك وهي كانت كل شىء، كل شىء، هي كانت السبب لكل شىء.
تكتشف انه حتى مع تقدم سنك فإنك تريد ان تفعل أي شىء لتفرح بك أمك. من أول رسمة ساذجة في المدرسة إلى مقالك أو برنامجك الاسبوعي.
هناك طفل صغير بداخلنا يريد ان يجري لأمه ليريها ما يفعله.
من سأذهب لها الآن لأخبرها ما فعلت هذا الاسبوع وهي تخفي فرحها لتقول لي جملتها المليئة بالحب والقلق والتوجس:
«أنا خايفة عليك»
يقولون ان الحياة تستمر وانك ستعود تعمل وتجتهد وتبدع في حياتك.
ربما يحدث ذلك.
ربما نستمر لمجرد اننا نحتاج ان نفعل شيئا ما بحياتنا
لكن بعد أمي لا طعم لكل ذلك.
بعد أمي لا قيمة لكل ذلك.
بعد أمي لا شىء يهم.

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024