الفكر الممجّد وسيارة تويوتا!- بكر أبو بكر
في حوار مع أحد الأخوة من تيار إسلاموي أصبح التشدد والمغالاة من سماته ، إلا أن الصداقة مع ذلك لا تزول معه، تطرق الأخ الكريم الى شخصية مجددة من الشخصيات المعروفة في الفضاء الدعوي الاسلامي فاتهم الرجل بعقيدته وأخرجه من الملة لسبب مخالفته له ، ولسبب أن شيخه قد أفتى بكفره ، فحرت جواباً اذ كيف أرد ولي بعض القضايا الايجابية عن الشخص المعني فمن ابتدأ بالتكفير أغلق عقله فلا يصلح النقاش.
إن اغلاق العقل استرخاء في منطقة الراحة للشخص، ورفض عنيد للانتقال الى منطقة التشكك والحيرة والرغبة بالفهم ما هي صراع متصل، ومدخل التثبت أو النقض أو التجدد في آلية فكرية متصلة.
لقد وضع صديقي ،ذو الفكر الماضوي الممَجّد، نفسه بعيدا عن نطاق امكانية الاستفادة من هذا "الكافر" الذي قد يمتلك من الحكمة ما يتوجب النهل منها بغض النظر عن عقيدته، رغم أنه مسلم في حالتنا هنا ، ثانياً فهو ارتبك معرفياً اذ قصر فهمه عند حدود المُملَى عليه فقط ، ثالثاً هو خالف القرآن والسنة القائلين بضرورة الاستماع والنظر والتفكر والتأمل والتدبر .
الحكمة ضالة المؤمن كما قال عليه الصلاة السلام فأين يجدها فهو أولى وأحق بها، ما يعني هنا ضرورة طلب العلم والمعرفة والفكر والتجدد والتطور والنهضة بالمضامين والوسائل بالطرائق والمباني بالأشكال والصور بالمعاني والتأويلات، ولولا ذلك لظلت أمة العرب ومن بعدها كل المسلمين غارقة في أساطيرها وأحلامها وأشعارها ومفاخرها وأنسابها وبداوتها ، وجاهليتها التي حررها الاسلام منها بالهدى والميزان (العقل) .
لم استطع أن أمنع نفسي من الرد على الاخ المكفّر لغيره بالكثير من الآيات والأحاديث التي نعرفها جميعاً ، وترفض التكفير للمسلم، وتطالب بالحوار والعظة والنقاش بالمحبة والحسنى والسماحة ولكن هيهات لمن اغلق عقله أن يجد المفتاح، وهو قد ألقاه في "غيابة الجُب" من آلاف السنين.
إن الفتنة الفكرية القائمة اليوم في مجتمعنا العربي والاسلامي وأمتنا حيث لا يحتمل أحد الآخر بل يراه في الفسطاط النقيض، فما بالك أن لم يكن في عقله إلا فسطاطين أحدهما في الجنة والثاني في النار؟!
أقول أن الفتنة الفكرية في أمتنا في أحد ظلالها هدف سامٍ تحقق لكل قوى الاستبداد والهيمنة والسيطرة (السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.... ) على العالم، بارادتنا أو بجهلنا ، فإن تترك الأمة لتتصارع في رحاب الفكر دون أن تنطلق من أرضية إيجاد مساحة لقاء فإن في ذلك للقوي والمسيطر والمهيمن يوم فرح بل عقود وربما قرن أو قرون من السعادة .
لا يمكن أن نقضي على مظاهر الغلوّ والتطرف والتشدد والاقصاء والاستعداء لكل مخالف إلا بمنظار فكري جديد وتربية متجددة ورحابة عقل وسعة أفق واستعداد للتقبل والتفهم والمشاركة بل وحب الآخر تنطلق من استلهام مستنير لشخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) سيد الخلق الذي لولا امكانياته وسماحته ومحبته ولطفه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) وقدرته على الصفح والغفران للخاطئين بل ودعائه لهم والحوار معهم، لما كان أحب لكل مسلم من نفسه.
إن سيرة وشخصية سيد البشرية في السماحة والبشر والسراج المنير، والمساحات المفتوحة والوسطية والتطلف مع الناس لم تمنعه عليه أفضل الصلاة والسلام من تبليغ رسالته أحسن التبليغ دون تنفير أوغلظة أو استعلاء، ما نراه اليوم صارخاً في كثير من الشخصيات والأحزاب الاسلاموية.
إن نهضة الأمة هي نهضة فكرية وثقافية وقيمية نعم، وكلما اتسعت مساحة التفكير وأدواته كلما تقارب المختلفون وتفاعل المؤتلفون، وهي نهضة اقتصادية زراعية صناعية، إذ بدلاً من أن أتفاخر بركوبي لسيارة تويوتا أو "بي ام دبليو" أو جنرال موتورز...الخ، ألا أسعى أو نسعى لنركب سيارة من طراز أو علامة تجارية صنعها عرب أو مسلمون؟! بمعنى أن أركب سيارة خالد (لا تضحك أن تكون هناك سيارة مستقبلا بهذا الاسم العربي أو غيره) أو أخرى من طراز علي ، أو سيارة وداد أو سعاد أو ليان مثلاً .
ألا أفخر بديني وأمتي ونفسي أكثر إن أمتلأ منزلي بأدوات كهربائية ( ثلاجة ، غسالة ، رائي ، حاسوب، مكنسة، فرن موجات قصيرة، هاتف ... ) من صنع قطر أو مصر أو تونس مثلاً.
أفلا أكون عبداً شكوراً دوماً وأضاعف شكري لله حين أكتب بقلم رصاص أو حبر من صنع الباكستان أو ماليزيا أو السودان ، وألا أكون أسهمت في الحضارة العالمية ورفعة الاسلام وصورة المسلمين والعرب عندما أمد يدي لأصنع ساعة بكر أبو بكر بدلاً من ساعة (أرماني) أو ( رولكس
ألا أكون أكثر قرباً من الله سبحانه وتعالى بمعنى العبادة والاستخلاف والأمانة التي حملها الانسان الجهول الظلوم (ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه كما قال الامام الشوكاني) عندما أعمر الأرض فآكل مما أزرع وألبس وأركب واستعمل ما أصنع، وأدرب عقلي على العلم، وقلبي على الايمان، وأربي أولادي على ذلك، وفوق كل ذلك أفخر واستمتع وأزهو، بدلاً من الفخر بجهلي وكسلي وركوني وسقوطي حين أجادل في المضاهاة بين هذا المنتج أو ذاك ومدى جودته ما لا أمت له بصلة الا الاستهلاك المرضي.
وأنا أكتب هذه السطور أضاف الصديق كمال خليل على ما أقول جملة لطيفة إذ يقول ( ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﻓﺮﺽ ﺻﺎﺭﻡ ﻟﺒﻌﺾ ﺍﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎﺕ ﻛﻤﻘﺪﻣﺔ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ .. ﻭﺍﺑﺪﺃ ﺑﺄﺩﺏ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ .. ﻭﺍﻟﺼﻒ ﺑﺎﻟﺪﻭﺭ . ﻭﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﺍﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻻﺷﺎﺭﺓ ﺍﻟﻀﻮﺋﻴﺔ ..ﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟﺸﺮﻃﻲ ﺍﻟﻤﺘﺒﺎﺩﻝ .. ﻧﻈﺎﻓﺔ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ .. ﺍﻟﺘﻮﻇﻴﻒ ﺑﺤﺴﺐ ﺍﻟﻜﻔﺎءﺓ .. ﺍﻧﻬﺎء أﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﺮﺷﺎﻭﻱ .. ﺍﺳﺘﻘﻼﻝ ﻛﺎﻣﻞ ﻟﻘﻀﺎء ﻧﺰﻳﻪ ..ﺍﻓﺘﺘﺎﺡ ﻣﻜﺘﺒﺎﺕ ﻋﺎﻣﺔ .. ﺍﻟﺦ ﺍﻟﺦ .. ﻫﺬﻩ ﻣﻦ ﺍلأﺳﺎﺳﻴﺎﺕ ﻭﺍﻟﻀﺮﻭﺭﺍﺕ ﻟﻠﻮﺻﻮﻝ ﺍﻟﻰ ﻣﺎ ﺗﺼﺒﻮ ﻭﻧﺼﺒﻮ ﻣﻌﻚ ﺍﻟﻴﻪ )، كما أشار الصديق جمال حماد لما استطرد به بضرورة (التحصين الثقافي ضد خرافات المحيط).
واستكمل بالقول: ألا اكون عبدا شكورا إذ بدلا من الفخر بتشددي ودفعي ضد الآخرين بالتشويه والتكفير حين أزاحم أخي في مساحة ضيقة من العقل، أذهب لألتقيه بمحبة -مع كل البشرية- ولأقبّله أو أحاوره أولأتنافس معه في الفناء الرحب.
إن النهضوية في العقل العربي والاسلامي لا تستقيم أن تظل مرتبطة بالموروث المليء بالغث والسمين، لأنها بذلك تكون عقلية جاهلة مسترخية مستسلمة نؤومة مأزومة.
والنهضوية في الأداء والفضاء العربي الاسلامي تقتضي أن نخرج من تحت الرماد لنزرع ونصنع ونبني اقتصاد أمتنا ولنبدأ فالبداية ذات معالم واضحة والمبادرة عنوان ، والإرادة قاطرة الفكرة لتصبح مركبا يسير.