محمد بكري: لا زلت أبحث عن الفيلم الحلم .. ويقلقني الزمن والمستقبل الضبابي ومصيرنا !
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
يوسف الشايب:
كشف الفنان محمد بكري، خلال استضافته في قاعة الجليل في متحف محمود درويش بمدينة رام الله، قبل ايام ، ضمن مشروع “في حضرة درويش”، أنه لم يقدم بعد الفيلم الذي يحلم فيه، وأنه لم يصل بعد إلى هذا الفيلم .. مضيفاً، في الأمسية التي أدارها د. إيهاب بسيو، وقدم لها سامح خضر، مدير المتحف: أعتقد أنني ما زلت تلميذاً، وما زلت أتعلم .. كل عمل أقدمه أشعر أنه ليس العمل الحلم، أو الفيلم الحلم .. أنا أؤمن بالسينما القصصية، وليس التجريبية، لذا الفيلم الحلم لابد أن يشتمل على “حكايات ستي وسيدي وأبوي وعمي وخالي”، كما أؤمن بأن السينما هي للتسلية والترفيه، وبالتالي الابتعاد عن التعقيد والتجريب .. أؤمن بسينما النقد الذاتي، والأمراض المجتمعية التي نعاني منها، ولبعض الأخطاء في تربيتنا، وللتزمت الديني، والعنف، والطائفية، والعشائرية، ولكل ما يضايقنا، وهو ما وجد بشكل ما في فيلم “عيد ميلاد ليلى” .. أريد فيلماً مبنيا بشكل درامي سليم بحيث يأخذ المشاهد فلا ينظر إلى هاتفه النقال طوال عرض الفيلم، ومنذ المشهد الأول وحتى الأخير .. هذا هو الفيلم الحلم .. الفيلم الذي يجرفني ويأخذني ومعه، ولا زلت أبحث عنه.
الفيلم المؤسس
واعتبر بكري فيلم “حنا كي” للمخرج اليوناني غوستا كابرا هو بمثابة الفيلم المؤسس لمسيرته، مع أنه لم يكن الفيلم الأول الذي يجسده، وكان يتناول حق العودة، وأنتج في العام 1983، وضم العديد من النجوم العالميين، بعضهم حصل على الأوسكار في سنوات لاحقة .. “الفيلم يتحدث عن القضية الفلسطينية وحق العودة بشكل واضح، وهذا ما شجعني لخوض التجربة، وليس التفكير بالعالمية على أهميتها .. وكان ذلك بارزاً لدرجة أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية شاركت في مشاهدة عروض الفيلم في باريس، وفي حينه التقيت بالرئيس أبو عمار رحمه الله، وبقيادات المنظمة، وكان ممن التقيتهم بسبب الفيلم الشاعر الكبير محمود درويش .. شعرت أنني أحمل ما هو أكبر مني، فقد كنت أمثل فلسطين وقضيتها في الفيلم”.
المتشائل
ووصف بكري، مسرحيته المتشائل عن رواية حبيبي بـ”انتفاضتي على المسرح العبري”، خاصة أنني درست المسرح والأدب العربي في جامعة إسرائيلية باللغة العربية، حتى إنهم كانوا يعلموننا العربية بالعبرية، لكني نبذت الاستشراق منذ صغري، لأنني كفلسطيني لا يمكنني أن أكون مستشرقاً، مع أنني عملت في مسارح إسرائيلية عديدة، لكن الانطلاقة كانت عبر مسرحية “مشهد من فوق الجسر” للكاتب الأميركي آرثر ميلر، وتتناول حكاية اللاجئين الإيطاليين ممن قدموا في الهجرات الأولى إلى الولايات المتحدة الأميركية، بسبب الفقر المدقع في أوروبا، حيث يصلون إلى نيويورك بطرق “غير قانونية”، وهناك يلتقون بأقارب لهم، وتبدأ مشاكل بين أحد الشبان المهاجرين وصاحب منزل أميركي يتسبب في النهاية بسجنه وشقيقه .. “في هذه المسرحية شاهدت نفسي، وشاهدت اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في كل أنحاء العالم، وفي المخيمات، وحتى في داخل الوطن (أراضي الـ48)، وحتى في الضفة والقطاع .. كنت في الثانية والعشرين من عمري، وقدمنا 800 عرض بالعبرية.
في خضم ذلك خضعت كغيري، والحديث لبكري، لعدة هزات أرضية، أولها يوم الأرض في العام 1976، وبعدها اجتياح بيروت في العام 1982 وخروج الفدائيين الفلسطينيين منها بالسفن، وسط صراخ الكثيرين ممن أعرفهم من رجال الجليل حزناً، بينما كانت النساء تشد شعورها تعبيراً عن تفاعلها من تلك الصدمة، لتأتي بعدها فاجعة مجزرة صبرا وشاتيلا .. “في هذه الهزات الأرضية، والتي ترافقت مع بداية نشوء وعي سياسي، وهوية فلسطينية متنامية داخل الـ48، شعرت بأن ما أقدمه من مسرح ليس هو ما يجب أن أقدمه، حتى لو كانت قريبة مني كمسرحيتي الأولى التي استمرت عروضها لأربع سنوات، لكنها بالعربية، وجمهورها إسرائيلي .. قررت أن أقدم مسرحاً عربياً، وأخذني ذلك وقتاً لإحداث التحول من الحديث وحتى التفكير بالعبرية إلى العربية، وقررت ذلك ليس فقط بتأثير تلك الأحداث الجسام، بل بسبب ما عانيناه في قريتي القريبة من عكا، جراء ويلات الحكم العسكري منذ العام 1948، فآثار النكبة والحكم العسكري لا تزال حاضرة إلى يومنا هذا.. ومن هنا جاءت المتشائل، وكانت البدايات في العام 1986، بتأثير من الفيلم اليوناني.
وأضاف بكري: مسرحية المتشائل كانت بمثابة التحدي لذاتي، بحيث أبرهن لنفسي أنني لست فقط ممثل سينما، بل إنني ممثل مسرحي في الأساس، وتحد سياسي لكل ما يمثل الأيديولوجية الصهيونية، التي هي المسؤولة عن جعلي كفلسطيني ضحية، وأتحدى من خلالها رحمه الله إيميل حبيبي (أبو سلام).
وتحدث بكري عن أول زيارة له لمكتب حبيبي في جريدة الاتحاد، وكان حينها حبيبي يستمع بحبة من الآيس كريم (اسكيمو) اختطفها من طفل رفض منحه فرصة قضم جزء منها، بل ولحقته والدة الطفل غاضبة، لكنها غادرت حين وجدته مستمتعاً على مكتبه بما تبقى من حبة “الاسكيمو”.
وتذكر بكري: في تلك اللحظات دخلت على مكتبه، بناء على موعد مسبق، واخبرته أنني ممثل، ورد بأنه شاهدني في فيلم “من وراء القضبان” .. وفي بادئ الأمر لم يقتنع بإمكانية تحويل المتشائل كرواية إلى مسرحية، بل وموندراما، ورغم ذلك بدأت بإعداد الرواية، وقرأت له الفصل الأول في مكتبه، وهو يهز برأسه تارة، ويضحك تارة، ويطلب مني التوقف عن الحديث تارة أخرى، ويعدل هنا أو هناك، وعملنا لأربعة أشهر، وكانت المسرحية التي عرضتها منذ العام 1986 إلى اليوم أكثر من ألفي عرض، في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم .. المتشائل بالنسبة لي أكثر من مسرحية .. هي حكايتنا .. هي نحن.
ونقل بكري رواية إيميل حبيبي حول أسباب كتابه للمتشائل، قائلاً: أخبرني أبو سلام رحمه الله، أنه كتب المتشائل في العام 1972، بعد أن سمع في الكنيست، وكان ممثلاً للحزب الشيوعي فيه، تصريحات لإيغال ألون، وكان حينها وزيراً للثقافة في إسرائيل، قال فيها إنه لو كان هناك شعب فلسطيني حقيقة لترك وراءه إرثاً أدبياً فلسطينياً، فشعر بجرح كبير، وقرر حينها كتابة رواية تعيش ما بعد رحيل إيميل حبيبي، وما بعد رحيل إيغال ألون، وما بعد كثيرين، وكانت المتشائل .. كما أنا تحديت نفسي، إيميل، وعلى ما أعتقد، تحدى في هذه الرواية الدولة الصهيونية.
ما بعد المتشائل
وفي مرحلة ما بعد المتشائل، بدأ بكري يفكر بضرورة تقديم مسرحيات بالعربية فقط .. وعن تلك المرحلة قال: في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي انضممت لفرقة مسرح القصبة بالقدس المحتلة، وقدمنا مسرحيات لكتاب عرب من بينهم سعد الله ونوس ومحمد الماغوط وآخرين، إضافة إلى كتاب أجانب، حيث قدمنا عدة مسرحيات في هذا الإطار بينها روميو وجولييت، كما أخرجت مسرحية رمزي أبو المجد، ومسرحية أبو مرمر وتتناول موضوع الحركة الأسيرة الفلسطينية .. “هذه فترة أعتز بها، وكانت فترة ثرية، لكن بداية الانتفاضة الثانية وما رافقها من إجراءات إسرائيلية كالحصار واقتحام المدن، حطم هذا الثراء المسرحي، كما حطم الكثير من الأشياء، وحاصروا المسرح الفلسطيني كما حاصروا أبو عمار، وبالتالي لم يكن هناك مجال لمسرح في مثل هذه الظروف”.
جنين جنين
وحول فيلمه الشهير “جنين جنين”، قال بكري: كنا نسمع القصف العسكري الإسرائيلي للمخيم من عندنا .. نحن لا نبعد أكثر من نصف ساعة بالسيارة عن جنين، وحينها جرى الحديث عن مجزرة، وما حصل أنني كنت برفقة جوليانو مير خميس رحمه الله، وابني صالح، وبعض الممثلين المسرحيين، في وقفة احتجاجية في القدس أمام القنصلية الأميركية لدعمها إسرائيل في حربها على الشعب الفلسطيني، تلتها مشاركتنا في مظاهرة عند معبر الجلمة قرب جنين، وشاركنا المئات في هذه المظاهرة، وكنا معنا شاحنات تحمل أغذية وأدوات طبية لأهالي المخيم، ولكن جيش الاحتلال منعنا من الدخول، بل إن أحدهم أطلق النار علينا، وأصيبت وقتها الفنانة فلنتينا أبو عقصة .. في تلك اللحظة قررت الدخول إلى المخيم، والتصوير بغية الخروج بفيلم عما حصل، لأن إطلاق النار علينا بهذا الشكل الذي يوحي بنية القتل، يشي بأن ثمة ما هو أفظع داخل المخيم.
وأضاف: استدنت نقوداً من صديق لتغطية نفقات تنقلاتي، وأجرة الكاميرا، وصورت لأربعة أيام متواصلة ما شاهدته بعينيّ .. للوهلة الأولى، ومن هول ما شاهدت لم أتمكن من التصوير، بل إن قدميّ لم تحملاني .. صورنا في ظروف صعبة وخطرة، وكان التصوير من قبيل “قلبي دليلي” أي دون سيناريو أو مخطط واضح المعالم للفيلم .. الفيلم جاء مصادفة، حتى إنني وجدت من يقوم بمنتجة الفيلم مجاناً في روما.
وتابع: ما أثار حفيظتي هي تلك الأكاذيب والافتراءات الإسرائيلية بأن السلطة الفلسطينية هي من موّلت الفيلم، وأنها من دفعتني للقيام به من باب “الدعاية الكاذبة”، وأن الفيلم ليس إلا محض أكاذيب .. بعد انتهاء الفيلم كان العرض الأول في القدس، وحاول ضابط يدعى سنغر منع عرضه عبر الضغط على مديرة السينماتك بدعوى أن الفيلم ضد الإسرائيليين قبل أن يراه .. وقاد هذا الضابط ثورة ضد الفيلم، وحملة عنيفة ترجمت إلى قرار رسمي من الرقابة الإسرائيلية بمنع عرض الفيلم، بعد ثلاثة أيام .. منع لعامين، قبل أن نجحت بعدها، وعبر المحكمة العليا الإسرائيلية، بالحصول على تصريح بإعادة عرض الفيلم، ولكن في هذا الفيلم كان هناك حملة إعلامية ترويجية مضادة لفيلم “جنين جنين” ومحمد بكري، بل قاموا بإنتاج أربعة أفلام مضادة لـ”جنين جنين”، ومؤخراً تم سن قانون في الكنيست الإسرائيلي تحت اسم “جنين جنين” يمنع أي شخص آخر تسول له نفسه القيام بمنتج فني أو إعلامي ضد الجيش الإسرائيلي، بل قام جنود إسرائيليون برفع دعاوى قضائية ضدي بالقذف والتشهير وإساءة السمعة، ولم تنجح دعاواهم أمام صرخة “جنين جنين”، الذي تم البدء في تصويره بعد الانسحاب الإسرائيلي من المخيم بقرابة أسبوع، واستمر العمل فيه لأكثر من ستة أشهر، فيما استعنت بمشاهد صورت بكاميرات منزلية وأخرى عبر الهاتف .. “في جنين جنين كانت الصرخة ضد الاحتلال، وضد سياسة العقاب الجماعي”.
السينما الفلسطينية
وحول واقع ومستقبل السينما الفلسطينية، أجاب بكري: فيلم عمر لهاني أبو أسعد، وكونه أنتج بأموال فلسطينية خالصة، منحني الأمل بإمكانية وجود سينما فلسطينية .. السينما عموماً بحاجة إلى “جسم كبير ليحملها، كونها صناعة مكلفة”، ولا أدري إن كنا سنجد كل يوم “الأخوين زعيتر ومن شاركهم من رجال أعمال فلسطينيين في تمويل فيلم كما حدث مع فيلم عمر، مع أن في فلسطين من أصحاب الملايين والمليارات من يستطيعون صناعة عشرة أفلام كعمر بموازنة تزيد على مليوني يورو للفيلم الواحد، ودون أن تهتز مصالحهم الاقتصادية بتاتاً”.
وأضاف بكري: السينما بحاجة إلى كوادر .. كوادرنا الفنية لا تزال ضعيفة جداً على صعيد التصوير، والصوت، والإضاءة، لكن لدينا ممثلين ممتازين، وعلى صعيد الإخراج هناك اثنان أو ثلاثة يمكن القول عنهم بأنهم “مخرجون ممتازون” .. السينما فن راق، وهو فن جديد علينا كشعب لا يزال يحاول الخروج من نكبته، مع أن بداية صناعة السينما العربية في مصر كانت عبر الفلسطينيين الأخوين لاما، ولكن هذه تجارب فردية .. في فلسطين هناك جهود فردية في السينما، ولا يوجد للصناعة للسينما، ولا صناعة سينما دون مدارس ومعاهد للسينما، وهو ما لا يتوفر في فلسطين.. دون مدارس لا يمكن بناء جيل سينمائي يؤسس لصناعة سينما في فلسطين .. لا سينما فلسطينية بمعنى الصناعة السينمائية، بل لدينا أفراد مبدعون يحترفون السينما.
قلق
واختتم بكري حديثه بالقول: نحن بشر ولسنا شعارا .. وبالتالي الفلسطيني يتعلق بذاته، وحياته، وأهله، وبلده، وقضيته، وأرضه وهويته، ومصيره، وحاضره، وماضيه ... ما يقلقني أنني اقتربت من الستين ولم أصنع الفيلم الذي أحلم، ويقلقني أن أبنائي يريدون الهجرة من فلسطين لعدم قدرتهم على العيش فيها، ويقلقني الانقسام الفلسطيني جداً جداً جداً، ويقلقني مستقبلنا الضبابي مع المتعنتين الإسرائيليين، فلا شريك لنا في الجانب الإسرائيلي، ويقلقني العنف جداً، ويقلقني النزعة الدينية التي تتفشى في الوطن العربي كله .. يقلقني مصيرنا، والزمن.