مجرد هذيان !!- عيسى قراقع- وزير شؤون الأسرى والمحررين
منذ زمن غير بعيد ، تنامت ظاهرة الهذيان في بلادنا المقدسة ، نزل الأنبياء قليلا عن قداستهم، وصعد الأباليس عاليا يحملون أناجيل خاصة وثقافة القفزنة والوتوتة، ويدّعون بعد كل ذلك أنهم الأولون لا احد قبلهم ولا بعدهم، يملكون مفاتيح التطور والحقائق... مجرد هذيان.
قلت أنها تجربة قصيرة، ولكن طريقها مليئة بالمزيفين الذين لا ينظرون إلى الأرض ، أفواههم مليئة بأشياء رنانة وجذابة، وكأنهم أكاذيب حية لا همّ لهم سوى صناعة الفشل للآخرين، وتعليق الأوسمة وتلميع الأحذية وشطب أسئلة الفقراء والمغلوبين على أمرهم... مجرد هذيان.
ما بين الخليل وجنين، وفي بلد محتل احتلالا مباشرا وغير مباشر، انصهرت مفاهيم كثيرة ، وانطوى الوعي الفلسطيني على الرضى والقبول لأمرين متناقضين: أن تكون محتلا ذليلا ولكن بربطة عنق جميلة ومكتب فاخر وعمارة شاهقة في مكان عال يطل على هواء مدينة تل أبيب، وكل هذا وبدقة متناهية ، وفي نفس الوقت الحفاظ على خطاب ثوري مزبد بالإنشاء وصالح لكل مناسبة إن كانت فرحا أم مصيبة ...مجرد هذيان.
رجعت إلى قاموسي القديم وأصدقائي وسألت إن كانت قد تبلورت فينا نزعة إنسانية من نوع جديد، وأصبحنا نصغي وننظر إلى تلك الصور المتحركة ما بين حاجز ترقوميا وحاجز حوارة دون أن نشعر بالاستياء كأننا ممثلين، أجابوني بأنك قديم، وأن لكل مرحلة حياة أخرى وقيم أخرى، إما أن ينبذوك و إما أن يهضموك فاختار أسهل السبل للاسترخاء... مجرد هذيان.
الخبراء الكثيرون ومن كل دول العالم والذين اجروا تجارب كثيرة علينا ، وجدوا أننا مشوهين روحيا وذاتيا، ومقلوبين من الداخل، فاطمئنوا حينها انا تخلينا عن المعجزات الكبرى، وأصبحت رؤوسنا مليئة بهموم كثيرة، يتحدثون كثيرا عنا ولكنهم لا يتحدثون إلينا، أغرقنا الباحثون بخيال السلام والتنمية وهم يقلعون من أرضنا وأشجارنا روح الذاكرة... مجرد هذيان.
أن يقتحم جنود الاحتلال مخيمات جنين والعروب وعايدة وقلنديا ،ويذبحوا الشبان ويسفكوا دمهم، ولا نملك سوى بيانات شجب واستنكار واستياء وكلمات عزاء قصيرة، هذا هو الاستعمار الجديد وليس ما يقوله الباحثون تعزيز صمود... مجرد هذيان.
أن تصل مساكن المستوطنين إلى غرف نومنا تتدلى في أحلامنا، وأن يبني عمالنا الفقراء المستوطنات لأجل لقمة العيش والخبز والبقاء، وبعد أن زاغت أبصارنا ما بين معبر قلنديا المتوحش ومدينة روابي الجميلة حيث يجمع المرء في المشهد بين العبودية والسيادة، بين الحب والموت في آن واحد ، هذا هو الاستعمار الماكر الذي لا يريد أن نتعرف على حالتنا من خلال الأغلال والجراح، وإذا عرفنا لا نشعر بالخجل ...مجرد هذيان.
كانوا يتحدثون في الروايات عن أبطال، الآن يتحدثون عن مهزومين، يقفون على عكاكيز من بقايا الحرب، والكل سواء، قمع داخلي مكتسب، محو ذاتي مكتسب، وقد انقسم الشخص وهو يسير إلى لا شيء، حتى إذا طلع الفجر يفاجأ بان قوات الاحتلال داهمت أحد المنازل وتركت اللطم والبكاء وقطرات من دماء... مجرد هذيان.
أن نطالب بالمصير الإنساني وننكره في آن واحد، أن نتربع على الصفات والآرمات والمسميات والاستعارات، ذلك تناقض انفجاري، حتى المواليد الجدد في فلسطين يخشون الحياة أكثر مما يخشون الموت، وهذا أعلى أشكال الاضطهاد والضياع الإنساني... مجرد هذيان.
قلت لذلك الاسير المحرر الذي حاول أن ينتحر، لماذا تفعل ذلك، قال كنت مذعورا في السجن ولا زلت مذعورا بعد إطلاق سراحي، أريد أن أعيش لأنتصر وأجد إنسانيتي التي فقدتها، أخشى أن تصبح فلسطين بعد حين اسما لمعسكر كبير لا نجد فيه خبزا ولا ماء ولا حرية تستنفر صدى أعماقنا المجروحة... مجرد هذيان.
من الذي يجرؤ أن يتكلم بهذه اللهجة عن ثقافة الهذيان ، الطريق إلى الدائرة البيضاء في الدماغ، ويفتح أبواب الليل والنفوس الميتة، إنه تنجيم في واقع ملتبس وغموض سلس، تتداخل فيه كل القضايا ابتداء من صرخة أم أسير تنادي على ولدها الغائب، وانتهاء بالشعور بالعجز والإفلاس والاستغاثة عندما لا يخرج من الفم سوى الهواء ...مجرد هذيان
ثقافة الهذيان تحتاج أن تضرب راسك بالحائط قليلا وتنفصم ما بين أنت وأنت، أنت تخضع كليا لسيادة الاحتلال وإمبراطوريته من نقطة الماء حتى وسادة النوم وأنت في ذات الوقت الحالم العالي في القمة الساعي لدحر الاحتلال بالتماهي والاستبدال ...مجرد هذيان.
عندما تنسى أن دماغ الشعب قد تطور حيث يراك بدقة متناهية، يراقبك، يعرف متى تخلع ثوب المناضل ومتى تلبس ثوب الوزير، ومتى تسير بين الحالتين ، إنه غثيان وقلق، ولكن الضحك ينطلق من هنا خفية ومن تحت...مجرد هذيان.
أن تكون، وزير الجلادين والضحايا معا، الجلادون الذين انتجوا ضحايا كثر، والضحايا الذين لم يعودوا يرون في شوارعهم وعلى شاشات عيونهم سواك، الوسيط بين الألم والشفاء، وكيل المرور بين كل المراحل المتناقضة... مجرد هذيان.
أن تملك ثقافة تحويلية ، ثقافة وظيفية، ولك لغة ممدودة ومرنة قارية، تتحرك من مفردات حركات التحرر الوطني إلى مفردات منبسطة مغسولة من الغبار والجوع والغضب، لغة وسطية تجعلك لائقا وصالحا وفق نظام وهندسة مسخ الكائنات وإعادة صهرها ...مجرد هذيان.
رأيت مدينة شاهقة على مسافة قريبة من معسكر مدجج بالمصفحات والمجنزرات، ورأيت شابا يعرى على حاجز عسكري، ومتضامن أجنبي يعزف الموسيقى أمام طابور عمال ينتظرون منذ ساعات الفجر المرور عن ذلك الحاجز، ولا خيار أمام كل هذا سوى أن لا تفعل شيئا أو تنسى، و أن تضبط كلماتك كساعتك أو تنكر أن شيئا ما ينتظرك هناك... مجرد هذيان.
المحقق الإسرائيلي لم يستطع انتزاع اعتراف من الطفل القاصر علي سويدان ابن الرابعة عشر من العمر، فقام بإطفاء سيجارته المشتعلة في شفتيه، ولما سألته المحامية عن ذلك ابتسم وأطفأ كلامه في روحه الحائرة قائلا: لم أعد طفلا منذ الآن ...مجرد هذيان.
بعض الدول الأوروبية وبتحريض إسرائيلي مسعور هددت بقطع المساعدات المالية عن الحكومة الفلسطينية، لأنها تعتني بالأسرى الضحايا وعائلاتهم وأطفالهم، وحينها انتصبت الكرامة الوطنية في وجهنا، وألقى الشهيد الاسير أبو علي شاهين خطابه المشهور في سجن نفحة عام 1980 صارخا: الجوع لا الركوع.. مجرد هذيان.
في شوارع مخيم الجلزون رأيت أطفالا يلعبون بالحجارة، يبحثون عن مساحة تصل الشارع وبرج الحراسة والمستوطنة، حينها تذكرت الشهيد الاسير خليل شراكة الذي وصل السجن مضروبا على رأسه وفاقد الذاكرة، وكان قد اخترع وسيلة توصل حجره إلى حيث يجب أن تكون قدماه...مجرد هذيان.
في ساحة مهد المسيح عليه السلام استمعت إلى خطاب الرئيس الفلسطيني أبو مازن عندما قدم طلب عضوية فلسطين كدولة في هيئة الأمم المتحدة، سالت دموع العذراء النائمة في المذود فرحا، وأضاء البلاط المقدس عن قطرات دم تركها المبعد جهاد جعارة عندما طلب الحماية في بيت الله خلال حصار الكنيسة عام 2002... مجرد هذيان.
قلت لحبيبتي لا أريد سوى قهوة وسجائر وطلة مشرقة على زنزانتي ،ذهبت تجمع ما في قلبها من أشواق ولم تعد حتى الآن، حينها أدركت لماذا لم يبتسم الأسير كريم يونس منذ 31 عاما في مؤبده خلف القضبان... مجرد هذيان.
في الطريق إلى الخليل وبالقرب من مستوطنة "إفرات" وعلى اليسار تجد دالية عنب فلسطينية قام أحد المستوطنين بتسييجها وحجزها، ووضع إعلانا بعدم الاقتراب منها، ولما دنوت من قطوفها وجدت دموعا تسيل تشبه دموع الشهيد ميسرة أبو حمدية في لحظاته الأخيرة ...مجرد هذيان.
أصابني كابوس في إحدى الليالي ، نهضت وإذا بالليل الأسود يسألني : كيف تقبلون أن يتحول الهم الوطني في تجلياته ومعانيه إلى مجرد رواتب شهرية، وفجأة تذكرت أن علي أن اشتري ربطة خبز قبل أن يصحو الأولاد ويذهبوا إلى المدرسة... مجرد هذيان.
قالوا عن قصيدة الشاعر المرحوم محمود درويش "فكر بغيرك" أنها من أروع المنظومات الإنسانية عندما قال: ليتني شمعة في الظلام، لتداهمني بعدها قصيدة الشاعر الإسرائيلي " حاييم حيفر" وهو يهددني بقوله : سنعد لك وجبة مع رصاصات الموت... مجرد هذيان.
هل أسأنا إلى الأرض حتى يزداد عدد عملنا المساكين الذين يسقطون عن عمارات شاهقة معلقة في السماء خلال أشغالهم ويموتون، جذبتهم الأرض بعيدا عن حماية قوانين العمل ، بعيدا عن شهود مندهشين ...مجرد هذيان.
لا ينفع الندم،لأن الاسير المحرر عدنان محمدية مات مقهورا وبلا هوية وبلا جواز سفر، فقيرا مريضا في أحد بيوت وكالة الغوث في مخيم النيرب في سوريا، ولن أتذكر سيرة النهر ودرب ثمانية عشر عاما في السجن ، لن أتذكر... مجرد هذيان.
قالوا أن الفكرة بنت الهذيان، ونحن الشعب الوحيد الذي يذبح الأفكار عندما يذبح البنات باسم العشيرة والقبيلة والعادات البالية، لا نتوجع كي يكون فرحنا ذكوري...مجرد هذيان.
علينا ان لا نندهش من كثرة الأخطاء الطبية، أطفال يموتون، وأطفال يعيشون معاقين، وعندما انظر إلى ابنتي أسيل التي فقدت النطق خلال ولادتها، أجد في عينها صورة ذلك الطبيب الذي ترك لي سؤالها الصعب : لماذا يا أبي لا يخرج مني الكلام... مجرد هذيان.
ناديت على أمي وقلت لها: لقد عدت طفلا فاسردي لي حكاية تغريبة بني هلال، تنهدت أمي وتحدثت عن امرأة اسمها سعدى ،كانت تشجع فرسان قومها خلال الحرب أو التدريب في الميدان، عين على أبو زيد وعين على ذياب،ثم بكت أمي وهي تنظر إلى صورة أبي الذي سقط بلا فرس في زقاق مخيم لا يشبه أي مكان... مجرد هذيان.
نحن الذين نحتفل ثم نحتمل وبكل شيء، بالجوافة إذا استوت، وبالعنب إذا اختمر، وبالزيتون إذا أسكره الزيت، نحتفل بالجرحى وبالأسرى وبالعمال وبالشهداء والمبعدين وبالمعاقين وبيوم الطفل والمرأة وبذكرى ألف مجزرة، الأمس لم يكن جميلا، والغد يبكي الميت فينا ...مجرد هذيان.
رأيت طبيب السجن يحقن الاسير معتصم رداد بالكيماوي والمخدر ، هدوءا هدوءا أيها الجسد المصاب بالسرطان، سنزيد عدد الجرعات إذا لزم، الطبيب يعرف تماما أنه لا يخطئ الطريق إلى المقبرة...مجرد هذيان.
رأيت الاسير المحرر فخري البرغوثي يمشي وحيدا في سراب مدينة رام الله، لا يقاطعه أي حلم أو عابر طريق، ورأيت خمسة وثلاثين عاما قضاها بالسجن لا ظل لها في الأبجدية، ولما سألته قال: لا زال في داخلي زنازين لا يمر بها أحد للتحية.
يا إلهي، أيها العالي في الأعالي، كيف وضعت حماستك الربانية في شعب نصفه لاجىء أو أسير أو شهيد، أعطيته الأقصى والقيامة والبحر المتوسط، لم ينتصر، ولم يكن كما اراد أن يكون ، ألا زلنا يا إلهي نتدرب على الصبر الطويل...مجرد هذيان.
يا إلهي، كيف استطعت أن تمد في عمر أم ناصر أبو حميد، حتى هذه اللحظة، لقد فقدت شهيدا وغاب عنها خمسة أبناء في السجن، أمهاتنا لا يردن أن يكن كالخنساء، أمهاتنا ما خلقن للوداع او للبكاء ، لا نشك بمصيرنا وبقدرنا، ولكن لا نريد أن نظل من الخاسرين...مجرد هذيان.
يا إلهي لقد علمتنا أن الغيم إذا تجمع أنزل الأمطار، وإذا الأرض ارتوت اشتلت الأزهار والأشجار، فماذا غيومنا ملغومة بالقنابل، وأرضنا يجففها محتل يقطف من أنوثتها ما فاض في قلبي ... مجرد هذيان.
ما دمت من أهل هذا البلد عليك أن تملك عشرة حواس وأكثر، أن تكون في كل مكان وتجيد التأويل وتحريك الأدوار وإخفاء هلوساتك المريضة، أن تفتش على الفرد الفذ فيك، عن البطل، أن تحاول أن تتساوى مع الإنسان في الوقت الذي لم تعمل لكي تجعل من شعبك إنسانا... مجرد هذيان.
في الهذيان عليك أن تتناسى أن الشعب هو الذي يخلق النفوس، ويصنع الأيدي الساحرة التي تحقق المعجزات، وأن الشعب هو الذي يخلق لنفسه قمة، وليس القمة هي التي تخلق الشعب، وتبقى في تناسيك هذا جبان تغرق في مستنقعات سوداء وفي فراغ رهيب... مجرد هذيان....
الباحثون أتقنوا شغلهم فينا، وحبكوا الرواية من البداية إلى النهاية، وتركوا للسجان أن يظهر كرمه أحيانا ، وتركونا أيضا أن نظهر وطنيتنا أحيانا أخرى، ولكن الباب مغلق بإحكام على الأبطال والمؤلفين وإيقاع النصوص...مجرد هذيان.