هل يموت الجبل؟- احمد دحبور
رحل وديع الصافي من غير سابق انذار، وربما كانت سنواته الثنتان والتسعون قد اعطت انذارا صحيا لمن حوله، لكن المفاجأة هي الا مفاجأة، فهذا الصوت الجبار المقدود من جبل لبنان، والمسترسل مع ينابيع لبنان، والمحمول على ما يشبه المعجزة، لا يمكن الا ان تدركه قوانين الحياة، حيث الموت غاية كل حي.. ولكن ماذا عن حضوره العابر للمسافات والازمنة؟ كان ابو فادي جبلا.. فهل يموت الجبل؟
من بين لحظات السعادة التي ملأت مجامع روحي، اذكر تلك اللحظات في ليبيا من عام 1978، عندما كنت في ملتقى شعري، وظهر فجأة - على غير توقع - عدد من المطربين، كان بينهم وديع الصافي وفي ظله مطرب الجبل فهد بلان..
كان الصديق الراحل، الشاعر ممدوح عدوان بين الحاضرين، وقد اراد مسؤول نافذ من اقرباء العقيد، ان يشاكس او يسيء، بشكل ما، الى ممدوح.. فكانت المفاجأة التي اذهلت الجميع، من فهد بلان.. فقد انفجر أبو طلال بالمسؤول الليبي، وزأر بصوته الرعدي: هل تعرف معنى انك في حضرة شعراء؟ ثم الا تقدّر مهابة اننا جميعا مكرمون بحضور وديع الصافي؟
وكانت المفاجأة ان اعتذر المسؤول فورا، وانحنى بشكل مسرحي قائلا: شعراء العرب جميعا على رأسي، واني انحني امام قامة الاستاذ وديع..
تلك الحادثة العفوية، القوية في دلالتها تقفز الى ذاكرتي كلما دار الحديث حول سطوة الابداع. ولن انسى مبادرة المرحوم ممدوح، وهو ابو المبادرات، عندما وقف لعناق فهد بلان، فيما تولى هذا - رحمه الله، تقديم المفاجأة الاكبر: اذ انه انحنى بشكل لافت قائلا: انحني احتراما للشعر، وانحني ثانية وثالثة والفا في حضرة استاذنا الكبير وديع الصافي..
هذا كله والرجل لم ينبس بحرف واحد، فقد اغبطته التحية العفوية على نحو فريد وتمتم: لسّه الدنيا فيها خير..
ولان الخير كان عميما، فقد اراد ابو زياد - ممدوح رحمه الله، ان يكمل التحية على طريقته فتساءل ضاحكا: هل نطمع من الاستاذ فهد بأغنية «مال واحتجب»؟ ليرد فهد بسرعة بديهة: في حضرة بطريرك الغناء لست الا شماسا صغيرا.. فليكرمنا ابو فادي بما يشاء من صوته الاسطوري.
يومها رأيت الوجه الآخر لابي فادي، فوديع الصافي الذي كنا نفقد السيطرة وهو نسمعه يغني: الله يرضى عليك يا ابني.. اصبح هو بمثابة الابن الوديع، ولمع في عينيه الذكيتين بريق سعادة لا يوصف: بكون مجنون وما بسوى اذا ما بغني.. ليش كل يوم فيه جلسة سعيدة هيك؟ وانطلق الجبل بالصوت الآسر المجلجل المتدفق، على قوته الاستثنائية، بحنان وعذوبة لا توصفان: الله يرضى عليك يا ابني..
شعرت يومها ان الله رضي عني حقا، فمنذ ان اكتشفت نعمة الراديو وصوت وديع الصافي يأخذني الى حيث لا اعرف، كأنه - استغفر الله - يعيد انتاج روحي.. ولاننا نتحدث بنعمة ربك، فلنعترف بأننا، معشر العرب، محظوظون بأصوات جميلة وقوية عابرة للزمن.. لكن لدينا بعض الحالات الاستثنائية، هي فوق مقياس الطرب والصوت الجميل القوي، اذ انها ظواهر من ظواهر الطبيعة..
ومن مظاهر الطبيعة الاخاذة صوت وديع الصافي.. فنحن ننتقص من حنجرته المعجزة عندما نصفه بالصوت الجبلي، اذ انه - كما اراه ويراه كثيرون بطبيعة الحال، حالة خاصة، لنقل: انه جبل يغني..
هذا الجبل النادر المتواضع حتى الاحراج، كان يعي اهمية موهبته، فلم ينحدر ولم يبدد صوته ولم يعرض جواهره باستخفاف بل اكتشف في كل روح مخبأ كنوز.. وكانت كنوزه لا تنتهي: من حنان الاب، الى لوعة المهاجر، الى الانصهار في الوطن - الجبل تحديدا، والى ذلك لم يتردد في قبول الاغاني الخفيفة.. فالنهر المتدفق يأخذ في طريقه ما يرى وما يريد..
يومها هتف ابو طلال - فهد بلان: الا نفتخر لاننا موجودون في زمن وديع الصافي؟ واذا بالجبل المغني يرتبك وكأنه طفل.. وكان طبيعيا ان هذه الروح الجبلية المتمردة تنطوي على تلك الطفولة الآسرة..
يخيل الي انه لم يأخذ حقه من العبقريين الاخوين رحباني، حتى راجت شائعة عنهما انهما خافا على فيروز - وهي فيروز لا سواها - من ان يطغى عليها حضور وديع بعد برنامج «سهرة حب» الذي جمعهما معا.. اما هو فقال في ذلك اللقاء:
لما ربنا سبحانه حب يكرم بني البشر خلق لهن فيروز.. بدي اقول مش العرب وانما الدنيا كلها.. كيف بتكون الدنيا بدون فيروز؟
وهكذا كان الكبير يعرف قيمة الكبير.. فحق للبنان معجزتان في وقت واحد: فيروز ووديع.. فيما كان الرحبانيان يزدادان عطاء وجمالا.
رحم الله ابا فادي. ومن قال انه ليس بيننا؟ اصغوا جيدا، الا تسمعون جبلا يغني؟