فقر في غزة تستره الجدران وتفضحه متطلبات الحياة
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
حياة وسوق - نادر القصير- أمام المؤسسات الدولية التابعة لوكالة "الأونروا" يصطف يوميا عشرات الخريجين والعاطلين عن العمل للبحث عن فرصة عمل ضمن برامج التشغيل المؤقت، وان كانت غير دائمة فإنها قد تطفئ ظمأ الأسر الفقيرة التي تبحث عن لقمة العيش في غزة التي غابت فيها المسؤولية عن القطاع الأكبر منه المتمثل بالطبقة العاملة التي انضمت إلى صفوف بطالة تتسع قائمتها يوميا لاستيعاب أجيال جديدة، والحكومة المقالة والمؤسسات الدولية، على حد سواء متهمون بالتقصير من وجهة نظر الباحثين عن عمل ومتهمون بالتوظيف على أسس حزبية والتضييق عليهم في الشروط الوظيفية، والتخلي عن مسؤولياتهم تجاه الفقراء، في الوقت الذي تلقي الأطراف المتهمة الكرة في الملعب الإسرائيلي وتحمله المسؤولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة الحصار المستمر على القطاع، والذي دخل فصلا جديدا بعد منع دخول الاسمنت، ما أدى بالمحصلة النهائية إلى انضمام ما يقارب 80 ألف مواطن كانوا يعملون في قطاع الإنشاءات إلى صفوف البطالة.
وفي غزة اليوم، تعيش عشرات الآلاف من الأسر ظروفا اقتصادية مأساوية، ولا تسترها سوى الجدران البالية، وتختبئ همومها بين الأزقة الرمادية للمخيمات، لا ناطق إعلاميا لديها ولا تعقد من أجلها المؤتمرات الصحفية، لدرجة أصبحت فيها هذه الأسر منفصلة عن واقع الحياة المحيط بها، "تتلهف على كابونة تصرف لها من حين لآخر من وكالة الغوث، وتخسر كرامتها يوميا بالتقسيط، لأن الخبز أصبح عزيزا، ولا أحد يستشعر همومها، ولا أحد يكلف نفسه عناء الحديث عن قضيتها".
لقمة العيش مغمسة بالدم
في حي البرازيل برفح أب وأبناؤه المتزوجون وأولادهم يعيشون في بيت صغير تكاد كل عائلة منه تحصل على غرفة واحدة تضم الزوج والزوجة والأبناء، كانوا يحملون أرواحهم على أكفهم يوميا للبحث عن لقمة عيشهم تحت الأرض في أنفاق لتهريب، واليوم وبعد أن أغلقت الأنفاق أصبحوا بلا عمل وفقدوا مصدر رزقهم الوحيد.
تقول والدتهم أم وائل أبو عرمانة: "من اللحظة التي فقدوا فيها عملهم بالأنفاق لم يدخلوا ولو شيقلا واحدا على أولادهم، ويقوم الأب الذي يتقاضى راتبا شهريا ضمن أسر الشهداء بمحاولة تغطية بعض النفقات البسيطة لأبنائه المتزوجين، لكن هذا لا يكفى مطلقا لسد احتياجات خمس عائلات تعيش في منزل واحد، فالراتب لا يزيد عن 1400 شيقل".
وتخشى أم وائل على أولادها من الفقر الشديد الذي أحاط بهم قائلة ان أحفادها عندما يمرضون لا يملك أباؤهم ثمن الدواء وكشفية الطبيب لعلاجهم، حتى التأمين الصحي حرموا منه بعد أن تفاجأوا بأنهم مسجلون تحت بند عمال ومطلوب منهم دفع رسوم للتأمين للحصول عليه رغم أنهم انضموا إلى صفوف البطالة.
وبدا على ملامح أم وائل الحزينة ونبرات صوتها المرتجفة ألم يستصرخ كل من لا تزال لهم آذان لسماعها.
أما أبو لبن وهو ابن الحاجة أم وائل وله أربعة أولاد فيؤكد انه يسعى دوما للبحث عن عمل حتى ولو بعشرة شواقل يوميا كما فعل اخوته أيضا لكن دون جدوى، مشيرا إلى أن صهره جاء لوالده قبل أيام يطلب خمسة شواقل ليشتري عشاء لأولاده الصغار، وغيره الكثير من الناس التي لا تسترها سوى الجدران.
ملامح طبقية
الملامح الطبقية في المجتمع الغزي تبدو واضحة لدى فئات مختلفة، منهم الموظفون وأهالي الأسرى والشهداء والأرامل، ومنهم تجار الدم والمهربون، ومنهم من يجلس على قارعة الطريق يسند حائط منزله منذ سنوات كمهمة يومية لا يتغيب عنها، هذا ما قاله وهو يتنهد محمد السدودي العاطل عن العمل منذ العام 2007 بعد أن أقصي عن عمله في أحد المؤسسات الصحية بغزة، لافتا إلى أن أولاده بلغوا سن الرشد ونظرتهم للمجتمع تتغير يوما تلو الآخر. وقال: "ما بيدي حيلة لأحميهم من تطور المجتمع من حولهم"، مشيرا إلى أن ابنه "عندما يرى أصدقاءه يحملون المال ووالده لا يملك شيئا، ويعجز عن توفير ملابس جديدة له وكتب ومراجع والمستلزمات الدراسية، لا بد أن شابا في عمره يستشعر الفقر يوميا في نظرات من حوله". ويضيف: "أخشى عليه من الانحراف للهروب من الفقر، كما أخشى على حياته فالكثير من أبناء معدمي الدخل تركوا مدارسهم دون علم أهلهم وذهبوا للعمل في الأنفاق ولم يعرفوا عنهم أخبارا سوى عند فقدانهم ووصولهم جثثا هامدة لعائلاتهم"، مبينا أنه لا يستطيع تحمل مجرد التفكير في هذا الأمر ما يجعله يراقب أبناءه باستمرار وبشكل مفرط لحمايتهم.
البطالة تهدد الأمن الاجتماعي
وحسب الخبير بالصحة النفسية د. محفوظ عثمان فان العمل يحافظ على الأمن الاجتماعي. وقال: "يؤدي توفير فرص وظيفية للشباب إلى خلق حالة من الأمن الاجتماعي، في حين أن البطالة وعدم قدرة الشباب في الحصول على الوظائف يساهم في انتشار الجرائم، وكثرة السرقات، ما يؤدي إلى الإخلال بالأمن الاجتماعي العام". وأضاف: "يسهم العمل في إشباع حاجات الإنسان النفسية كالحاجة إلى الاحترام والتقدير، وإثبات الذات، والاستقرار، كما انه يقوي كيان الإنسان المعنوي، ويصفي الروح، ويصقل الضمير الإنساني، ويجلي المواهب الباطنية، ويهذب النفس الإنسانية، وينمي الروح الاجتماعية، ويصنع الإرادة القوية" مشيرا إلى أن العمل "يوفر المتطلبات المادية" موضحا أن مجمل ذلك يساهم في تنمية الاقتصاد، وخلق روح جديدة فيه، مشيرا إلى أنه ومن دون توظيف الشباب يتعذر دفع عجلة الاقتصاد، خصوصا إذا علمنا أن أعلى نسبة في القوى العاملة هي تلك التي تضم شريحة الشباب.
أطفال غزة يرثون الفقر
سنوات تمر وأجيال تتوالد لينضم الأبناء إلى آبائهم في طوابير البطالة، يدفعون من دمائهم وفلذات أكبادهم ثمنا للعيش تحت شمس بلاد لم تنصفهم بعد، الزمن توقف في ذاكرتهم وذكرياتهم، والعالم يتغير من حولهم وهم كمن يشاهد فيلما على النمط الجديد ثلاثي الأبعاد، فهم يشعرون بالعالم المحيط وتطوراته ويعيشون عذاباته ولكن لا أحد يسمع تمتمتهم وشكواهم واعتصار مشاعرهم على فلذات أكبادهم الذين لا يملكون لهم حتى ملابس تقيهم برد الشتاء، كيف لا وحوالي 40 % من أطفال غزة يعانون الفقر، وفقا للاحصاءات.
وفي حي مصبح برفح، عائلة من 9 أفرد تعيش في غرفة واحدة منحها إياها صاحب البناية بعد أن أغلق محل البقالة الذي كان فيها، ولا تتجاوز مساحتها ثلاثين مترا مربعا، تم تقسيمها بقطع القماش والنايلون الأسود، والحمام عبارة عن ستارة بالية مثبتة على خشبتين.
وفي معرض رده على تساؤل "حياة وسوق" عن الفترة التي قضوها من عمرهم في هذا المكان المستأجر قال أبو أحمد رب الأسرة وليس معيلها: "منذ ثمانية أعوام ونحن نعيش في هذا المخزن، وصاحبه كان يتقاضى منا مئتي شيقل شهريا، لكن بعد ثلاث سنوات لم يعد يتقاضى منا شيئا لأنه يعرف الظروف الصعبة التي نعيشها ويعتبرها جزءا من زكاة ماله".
وقطعت حديثه أم احمد التي لم تتجاوز من العمر منتصف الأربعينيات ولكنها بدت وكأنها في الستينيات من عمرها إثر الهموم التي انعكست على ملامحها: "يا أخي هالبلد ما عاد فيها رحمة، ما حدا حاسس بحالتنا، زوجي له أكثر من ثماني سنوات لا يعمل ونعيش على الكوبونات التي توزعها الأونروا كل عدة أشهر، لكن الأولاد بحاجة لمصاريف وملابس وأكل وكتب وغيرها ولا نجد من يوفر لنا ذلك، فلا يوجد عمل ولا أي دخل بعد وفاة ابني الأكبر منذ ثلاثة أعوام". وبدت أم أحمد كأنها تحاول أن تخبئ دمعتها عندما بدأت الحديث عن ابنها الذي راح ضحية البحث عن لقمة عيشه في أحد الأنفاق، واستأنفت حديثها قائلة: "إحنا دفعنا ابننا ثمن لقمة خبز وعشان يعيشوا اخوته مستورين، لكن كل مال الدنيا ما بعوض الابن".
وأوضحت أم احمد أن لديها أربعة ابناء وخمس بنات إحداهن أتمت دراستها الثانوية ولم تتمكن من إتمام دراستها الجامعية نتيجة الوضع المادي القاسي للعائلة، مشيرة إلى أن أحلى الأيام التي ينتظرها الناس تمر عليهم أسوأ الأيام كالمناسبات والأعياد لأنهم يرون في عيون أبنائهم الحسرة والضيق فلا يملكون ما يكسون به أولادهم.
من يتحمل المسؤولية؟
خالد موسى عضو الأمانة العامة لاتحاد نقابات عمال فلسطين يقول: "أصبح من الصعب الحصول على نسبة واضحة للبطالة في قطاع غزة فهي في تزايد مستمر نتيجة تدافع الأجيال خاصة من أبناء الفقراء ومعدومي الدخل من الطبقة العاملة التي توقف جيل الآباء فيها عن العمل منذ سنوات طويلة نتيجة حرمانهم من دخول الخط الأخضر. وفي آخر احصائيات لدينا بلغت نسبة البطالة 60 %، والظروف المأساوية التي يعيشها العمال دفعت بعضهم للتوجه نحو عمالة الموت والأنفاق وسقط منهم ضحايا بالجملة وكل هذه التداعيات تتوالد".
وحذر موسى من تنامي ظاهرة القهر الاجتماعي في ظل انغلاق آفاق العمل، محملا المسؤولية للحكومات المتعاقبة. وأكد موسى أن المطلوب كحل عاجل ومستدام لواقع البطالة هو توفير شبكات الحماية المجتمعية ومنها إقرار التشريعات والقوانين وآليات تنفيذها وتطوير وتعزيز قانون التأمينات الاجتماعية بالإضافة إلى تطوير صندوق التشغيل وتطوير برامج التشغيل المؤقتة وتحويل برامج المساعدات الطارئة من برامج اغاثية إلى استراتيجية تنموية وتشجيع إقامة التعاونيات وتطوير الموجود منها باعتبارها حجر الأساس من أجل أي تنمية اقتصادية، وإقامة المحاكم العمالية وتطبيق قانون العمل الفلسطيني وتوسيع وتسهيل المشاركة في سوق العمل سواء المحلية أو الخارجية.
الاقتصاد الغزي منهار
ويؤكد الخبير الاقتصادي د. سامي أبو ظريفة أن قدرة الاقتصاد الغزي لتوليد فرص عمل محدودة جدا في كافة القطاعات سواء الإنتاجية أو الخدماتية، وبالتالي يترتب على ذلك ارتفاع نسبة البطالة بشكل طبيعي خاصة انه يدخل سوق العمل سنويا 30 ألف عامل في ظل عدم قدرة الاقتصاد لتوليد فرص، ما عدا ما توفره الحكومة في قطاعي التعليم الصحة والذي لا يتجاوز ألفين فرصة عمل، والقطاع الثاني كان قطاع الإنشاءات خاصة في ظل توافر مواد البناء وأموال الأنفاق، والنتيجة كانت بعد منع مواد البناء تراجع هذا القطاع، والأمور تفاقمت أكثر والتقديرات الحالية تشير الى 150 ألف عاطل عن العمل.
وأضاف :"إذا أخذنا نطاق البطالة الأوسع سنجد نسبة البطالة تزيد عن
60 % والأمور للأسوأ لعدم وجود آفاق، ويتحمل المسؤولية الحكومة القائمة بغزة واستمرار الانقسام وفصل وحدة الاقتصاد عن الضفة حيث كان من الممكن توليد فرص عمل جديدة".
وأكد أبو ظريفة أن السلطة الوطنية تصرف رواتب لما يقارب من 70 ألف موظف و50 ألف أسرة في قطاع غزة، وتقوم بتغطية النفقات الجارية لوزارتي التعليم والصحة، وتغطي إلى جانب ذلك نفقات العلاج في الخارج بالإضافة لمستلزمات القطاعات الخدماتية، مشيرا إلى أن القيادة السياسية في غزة تتحمل بشكل رئيسي أزمة هذا الاقتصاد طالما بقي الانقسام وستبقى غزة في واد والضفة في واد، ما يمنع من وجود أي سياسة اقتصادية تنموية قادرة على إنعاش وتنمية الاقتصاد الفلسطيني في الضفة وغزة ، مشيرا إلى هذا الوضع يضعف قدرة الشعب على الصمود، كما ان وجود 45 ألف خريج لا يملكون فرص عمل أيضا يفتح شهية الهجرة إذا توفرت الظروف لذلك.