أحمد فؤاد نجم- د. عبد المجيد سويلم
رحل الشاعر.
رحل شاعر الأغنية، شاعر الحناجر، شاعر الثورة والوعي والتغيير.
رحل الرجل الذي تفوقت شخصيته المتمردة على قصيدته المتمردة أبداً.
رحل شاعر الأغنية السياسية التي ألهبت مشاعر الملايين في طول بلاد العرب وعرضها بقوتها التي دوت بأعلى من صوت المدافع مع أنها أرقّ من النسيم.
مات أحمد فؤاد نجم قبل أن يرى بهيّة في حلّة الحرية التي كانت نشيده الوحيد.
مات أحمد فؤاد نجم في لحظة فارقة هي لحظة حياكة ثوب العروس، وقبل أن ترتديه بهنيهة العبور الأكبر، أو الزواج الأكبر بين الوطن المصري ودولته الجديدة.
من يعرف أحمد فؤاد نجم يعرف كم كان هذا الشاعر ساحراً إلى درجة العبث، وكم كان عابثاً إلى درجة الموت التزاما.
أحمد فؤاد نجم الحالم بعزّه والذي نعى جيفارا من كل الكنائس والجوامع والحواري، والذي تمنّى السفر "حدى" الفلسطينيين لينام إلى جانب بنادقهم، نجم عبد الودود المرابط على الحدود، نجم التلامذة ونكسون باشا وسلاطين الفول والزيت والبقرة الحلوب، نجم الممنوع من البتاع... نجم مصر يرحل عنا في يوم الانتهاء من إعداد دستور مصر. أتكون مفارقة المعجزة المصرية...؟
أحمد فؤاد نجم عالم اللسانيات الشعبية وخبير أسرار العلاقة السرية بين اللهجة واللغة، وبين الحب والثورة، أحمد فؤاد نجم العصيّ على الكسر، الأقسى من فولاذ حلوان هو نفسه اللين المطواع، كالخيزران.
احمد فؤاد نجم الذي تعلّم الأبجدية في ملاجئ الأيتام هو نفسه الذي علّم أجيالاً من طلاب الجامعات وأساتذة العلم والقادة ورموز الثقافة والأدب.
أحمد فؤاد نجم شاعر الأزقة والحواري والمقاهي هو نفسه شاعر الساحات والميادين والملايين.
أحمد فؤاد نجم رحل قبل أن يعلمنا كيف كان له هذه القدرة الخارقة على التفريق والمزج في آن معاً بين لحظة الوعي ووعي اللحظة.
مات قبل أن يعلّمنا كيف له هذه الملكة على الادهاش الدائم ومن أين ينهل الكلمات الدارجة لتصبح في صفّ البلاغة والاعجاز.
من سيعلّم الأجيال المصرية والعربية السائرة في ركب الثورة والتغيير فنّ الوقوف في المنطقة المحايدة بين التهكّم والازدراء.
كيف لنا أن نتقن ما احترفه في مهارة التوقف على خيطٍ لا يرى بين المكر وسذاجة الطيبة؟
ومن أين لنا أن نقطع النفس ونحن في انتظار نهاية القصيدة؟
مات أحمد فؤاد نجم الذي غنّى لمصر كأنها قمر الزمان وشمس الأوطان.
أحمد فؤاد نجم الشاعر الذي أضاع كل الحدود بين الوطني والقومي والإنساني وحوّل المسألة إلى أبسط معادلات الوعي.
أيها الرجل الذي كنت تصدمنا بتلقائيتك المبهرة وصراحتك الشجاعة وشجاعتك النادرة.
لماذا لم تساوم ولو قليلاً حتى ننساك قليلاً بعد موتك؟
ولماذا كنت بهذا النهم من العشق لبلادك حتى تحب بلادنا نحن أيضاً؟
أيها الصاحي كثعلب والنائم كيمامة
القادم من عمق التراث وعبق الحضارة
أيها الغائب المسافر المهاجر الطائر
أيها المغرّد المطرب السّاحر
أيها المغادر
اثقلت علينا شحن الذاكرة
كم أتعبت قلوبنا وأدميت عيوننا
حينما اختطفت نفسك من ثنايا الكلمات الشريفة
عشت عبداً للوطنية وقائداً لشرف الانتماء إلى القلم
بقيت فارساً في ساحة الوعي والثقافة والوجدان
حتى عندما كبوت مرة كنت مدهشاً وصادقاً وطيباً "كعيش" الفقراء المصريين
أيها المقدام الحائز على كل جوائز الفقراء وأوسمة الشعراء
أهديت لمصر كلمتها الحرة
وأهدتك مصر نوط الحرية الأولى من الدرجة الأولى.