خصائص نقائش القبور التونسّية بين دلالتها الجنائزيّة وقيمتها الجماليّة- عبير ثليبي*
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
مقبرة الزيتون بولاية نابل :
تعتبر المقابر مساكن للموتى، أين تخلد أجسادهم وأرواحهم، ولكلّ فئة من المجتمع حسب ديانته تبنى القبور وتدوّن أسماء اصحابها، فالمسلمين تشيّد قبورهم مع مستوى الارض مع شاهد مكتوب من الرخام او الحجر يحمل نصّ قرآني واسم الميت وتاريخ موته، وقد اختلف المسلمون في تثبيت شواهد القبور من حضارة الى اخرى و من فئة الى اخرى، اذ تعدّ شواهد القبور من اصعب فروع الفن الاسلامي لما تشتمل عليه من نقوش كتابيّة و عناصر زخرفيّة تختلف في اساليب حفرها وفي تنوّع الخطوط المستعملة في نقشها كما انّ مضمون النقوش الورادة على الشواهد تختلف من نصوص قرآنيّة الى أدعية مأثورة، وعبارات تعزية و ألقاب و أبيات رثائيّة و أحيانا تزخرف القبور دون ترك اسم او هويّة .
ففي "الوطن القبلي" ويقع في الشمال الشرقي "لتونس " وتحديدا ولاية "نابل" ، فقد اختلفت و تميّزت القبور فيها عن سائر المقابر في كافة البلاد التونسيّة، فضلا لحرفة النقش على الحجارة التي امتهنها متساكنو ولاية نابل و ذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر الى يومنا هذا.
ان القبور في مقابر ولاية نابل عبارة عن شواهد منقوشة بشتى انواع الزخارف، وتسمّى الحجارة المخصّصة للقبور "بالقبّريّة" تنقش خصّيصا لتغليف قبر الميّت ولكل منها سمة تميّزها عن الاخرى، كما لها دلالة رمزيّة وعقائديّة تعود للطبقة الاجتماعيّة التي ينتمي لها صاحب القبر. كما يدل الشكل الخارجي لشاهد القبر و أنواع الزينة عليه على جنس الرّاقد، و احيانا تشير الى مهنته. وغالبا ما نجد زخارف منقوشة بدقّة وتفنّن، اذ يُطلب من " النقّاش" نماذج معيّنة ومختلفة في محاولة من اهل الميّت للتعبير عن شدّة ألمهم وعن قيمة الشخص الذي فارقهم اي بقدر جماليّة "القبريّة" بقدر رفعة شأن المفقود لدى اهله، واحيانا تكون بفخر و تباهي فيما بين اهالي المنطقة. و كما سبق ان ذكرنا غلاف المقبور المنقوش يسمّى "القُبْرِيَّةْ " و فيها اربع واجهات مختلفة ، مع حجرين احدها "حجر شاهد" للقبر و آخر حجر يعرّف بجنس الميّت ، ذكر او انثى ، ينقش فيه " خلخال " للدلالة على انّ الميّت " امرأة" او "عمامة " او "بلغة" للدلالة على انّ الميّت رجل . مع انّي لم ار في المقبرة اي اثر للقبور التي تشمل " العمامة" لكنّ من خلال الصور الموجودة في كتاب " نابل صور و ذكريات " يتضّح حليا و تأكّد ان بعض قبور الذكور التي اندثرت حاليا كانت فيها " عمامة" امّا النسوة " فيها خلخال " او " خمسة" .
لم تكن هذه الظاهرة حكرا على الوطن القبلي و انّما عموما كانت شائعة في العهد العثماني، ففي كتاب "شواهد قبور من الاسكندريّة" أعده " د.خالد عزب و شيماء السايح" أكد على وجود هذه الظاهرة في المقابر العثمانيّة و ذلك من خلال توثيق مجموعة شواهد قبور المحفوظة "بمتحف الفنون الجميلة بمحرم بك بالاسكندريّة " اشار في الفصل السادس الى قمم الشواهد ، فقد نفّذت اشكال قممها بأغطية رؤوس للتمييز بين قبور الرجال و قبور النساء و للتمييز ايضا بين وظائف الاشخاص المتوفين و طبقاتهم الاجتماعيّة ، فنجد عمائم او طرابيش للرجال وظفائر للشعر او تاج من الزهور او الجواهر للنساء، وهي كظاهرة تعطي للمقابر حقيقتها الجنائزيّة ، كما تأثّر على مشاعر الزائرين و لا تجعل القبور متشابهة فالاختلاف يكون واردا و جليّا ، ففي الشواهد العثمانيّة و حسب الشواهد المحفوظة في المتحف بمحرم بك بالاسكندريّة فقد "تنوّعت اشكال القمم فنجد: العمامة وهي القاوق التركي ، و قد تنوّعت اشكالها بين ملساء خالية و اخرى ذات جدائل هندسيّة تبيّن لفائف الغطاء الشاشي، و احيانا كانت العمامة تزيّن بزخرفة نباتيّة ، كما نجد الطربوش وهو غطاء للرأس استخدم للطبقة العليا من رجال الدولة العثمانيّة – لم يحض بنفس مكانة العمامة- " امّا بالنسبة لنساء الدولة العثمانيّة فقمم قبورهن تعلوها "قلنسوّة" و قد تعددت اشكالها من " المستدير على هيئة قوس، و منها ما هو على هيئة العقد الثلاثي النتوءات ، و منها على شكل اسطواني مفلطح ذي حواف مدببة، بالاضافة الى القمم الشواهد التي اتخذت اشكال نباتيّة مجدولة و ملتفة."
لن تستغرب وجود شواهد قبور في تونس قممها عمائم و خلخال كما هو موجود في مقابر الوطن القبلي ، فكما كان لعائلة الشمنقي الاندلسيّة اثر في الوطن القبلي بحذق حرفة النقش على الحجارة ، كان للدولة العثمانية في فترة سيطرتها على تونس بعد العهد الحفصي آثارها الاجتماعيّة على تونس، فقد تأثر اهالي المنطقة بقمم شواهد قبور العثمانيين او ربّما كان هناك نقاشون من اصل عثماني حافظوا على هذه الميزة الجنائزيّة ، فقد تداول نقش القبور في القرن التاسع عشر اي فترة حكم"العائلة الحسينية" الى يومنا هذا.
فكل من الصورة 1 و2 تتجلّى النقائش التي تكسو شواهد القبور من الجانبين مع اختلاف نماذج "الزينة" المعتمدة في "نقيشة القبريّة من قبر إلى آخر ، فهي تتيح للزائر متعة النظر و التامّل فيها الى حدّ الانبهار . هذه القبور لا توافق في شكلها بقيّة القبور الموجودة في "مقبرة الزيتون" ،بالرغم من تحريم تزيين القبور في الدين الاسلامي الاّ انّ الكثير من هذا المجتمع لا يطبّق القاعدة الدينيّة في نصب القبور و شواهدها ،" العرب قبل الاسلام عرفوا شواهد القبور و استعملوها بعد الاسلام ، و لكنّ اهل المغرب رأوا في استعمالها خروجا على روح الاسلام ...و تنحصر أهميّة شواهد القبور في ثلاثة أمور : في النصوص التي عليها ، و في طراز الخطّ المكتوب به ، و فيما قد يوجد فيها من زخارف " امّا بالنسبة للصور 3، 4 و 6 فهي مثال على نقائش شواهد القبور الموجودة في نابل و المتكررّة اذ تكاد تجد نفس الوحدة المنقوشة في كل " قبريّة" بينما تختلف في قمّة الشاهد اي المكعّب القائم عموديّا مع شكل القبريّة المستطيل .
تشمل" نقيشة القبريّة" على العديد من النماذج المختلفة تراوحت بين نقائش متنوّعة من ورقات الزهور و زهور متعددة الفصوص و الاوراق والافرع النباتيّة و شكل الاغصان المتفرّعة من الطبيعة ، وهي تصنّف ضمن النقائش النباتيّة كما نجد اشكال اخرى نجميّة و هندسيّة بالاساس و كما نقش ايضا شكل الهلال . أحيانا تتشابه الوحدات المنقوشة فيما بينها و تتقارب لكنّها تختلف في الاطار الحجري المنقوش فتجد اغلبها ذات الشكل المربّع، و ذلك نظرا لطبيعة النقيشة التي تكون في الغالب نباتيّة زهريّة الشكل اي دائريّة و هو ما يفرض الحامل المربّع لجماليّة التركيبة المنقوشة .
*باحثة تونسية في التراث التقليدي