قصة قصيرة - قِلـَّة أدب!- ميسون أسدي
ربّاه! مضى شهر كامل وأنا في البيت منهمكة في التحضير لسفر ابني خارج البلاد للدراسة، والى جانب أعمالي اليومية ومشاغلي البيتية الأخرى انسحبت مساحة القراءة التي كنت اخصها لنفسي يوميا، ولم اشعر بذلك إلا عندما سافر ابني وعدت إلى أجندتي الروتينية.
كنت عائدة إلى بيتي سيرا على الأقدام ولفت نظري يافطة كبيرة معلقة على واجهة المدرسة التي تقابل بيتي: "أضخم معرض للكتاب"، وعلى الفور شعرت بجوع القراءة يقرصني، فلم أتوانَ.
في طرفة عين، تفقدت محفظة نقودي، وبعد أن اطمأننت على ذخيرتي المادية، دخلت المعرض وكلي أمل أن اخرج منه بمجموعة من الكتب تكون مؤونة لمدة طويلة، فالكتاب لي سمير يندر نظيره بين السمار.
عندما دخلت إلى المعرض لم أجد صاحبه. نويت طرح السلام عليه، فأنا أعرف كل أصحاب المعارض، منهم من أصدر لي بضعة كتب ومنهم من يعرض كتبي، وكلهم أصدقائي يعرفوني وأعرفهم.
تجولت في المعرض باحثة عن زاوية الأدب. اقترب مني رجل في الخمسينيات من عمره، بدا الشيب يخط شعره، كرشه مندلق، ويبدو انه شغيل في المعرض. سألني إذا كنت بحاجة إلى مساعدة؟ فقلت له: لا بأس أتدبر بنفسي، فقط أرشدني إلى زاوية الأدب والروايات. أخذني وسار أمامي إلى جهة معينة ولم يتركني لحالي. أخذ يعرض علي الجديد من الروايات ويحكي عنها بعض التفاصيل، فتبينت بأنه قارئ وعلى دراية بمضمون الكتب.
عرض علي كتابا لا اذكر اسمه فقلت له: لا أريده لقد قرأته ولم يعجبني، انه مجرد استعراض لمواقف جنسية.
لفت نظري احد كتبي بين المعروضات، فقلت له: ما رأيك في هذا الكتاب؟
- انه كتاب جيد جدا، اشتريه ولن تخسري..
قلت في نفسي، ها قد وقعت على غنيمة، فأنا لم أسمع أحدًا يحكي عن قصصي، دون أن يتملقني أو يحابيني أو يشعر بالإحراج، وها هي فرصة لا تعوض لسماع ما يقوله قرائي عني، ولاستدراجه في الكلام، قلت له: يبدو انك تقول عن كل الكتب جيدة! لا تخادعني حدثني أكثر، إقرأ عليّ ما قرأت في هذا الكتاب؟
- قرأته وأعجبتني قصة "احضري فورا نحن بحاجة إليك" ويبدو لي أن الكاتبة طبيبة وتعيش خارج البلاد في لندن، وفي قصتها كلام غير مباح، أجهرت الكاتبة بإباحيتها.
فاستغربت كلامه وقلت: من أين لك أن الكاتبة تمتهن الطب وإباحية بكلامها؟
فأجاب بثقة وعزة نفس: قرأت كل قصصها وبذاءتها بإباحيتها تخدش الأذن وتمتعض منها النفس، ما تكتبه ليس بأدب بل قلة أدب.
لم استطع إخفاء ابتسامتي وقلت له: إذا كنت تفكر هكذا فالكاتبة مستشارة اقتصادية في وزارة الاقتصاد.
قال بعينين محملقتين تطفحان استهزاءً: من أين لك ذلك؟
- هكذا ذكرت الكاتبة في قصتها "في انتظار شمبانيا"..
قطب جبينه وكأنه تذكر شيئًا وقال وهو يمط بوزه محرجا: صحيح كيف لم انتبه لذلك.
ضحكنا ثم قلت له: أنا اعرف عن هذه الكاتبة الكثير وأنت مثل معظم القراء يعتقدون بأن بطل القصة دائماً هو نفسه الكاتب، وهذه الكاتبة لا يمكنها أن تكون مرة لقيطة ومرة لطيمة، سأحدثك ماذا حصل للكاتبة مع قصتها "كلام غير مباح" اعتقد احد القراء، وهو مطرب مشهور، اعتقد أن زوجها مدمن خمرة، وأخذ يغازلها على أساس انه في صدرها أتون من الحب غير المروي، وفي قصة "على دروب القصة" اعتقد احد الكتاب وهو كاتب معروف بأن زوجها يخونها مع جارتها واتصل بزوجها يوبخه، فضحك زوجها منه كثيرا.. وفي قصة "الأفعى وسمها" اعتقد احد القراء وهو مربّي أجيال مخضرم بأن الكاتبة تقضي جل وقتها بعيدة عن زوجها في القدس وتثمل مع أصدقائها حتى طلوع نجمة الصبح، دون أن يعرف زوجها بأعمالها، وأرسل لها المربي إشارات غزل على هذا الأساس.
أعاد الرجل اعتذاره لإدراكه الخاطئ وقال لي وفي صوته رنة غريبة: لقد غلبتني فأنت كما يبدو قارئة نهمة، ملمة بتفاصيل القصص.
اختفت البسمة من على وجهي لما زلق لساني، وقلت له بعصبية:عند هذه الكاتبة بالذات عدة قصص متنوعة، أبطالها رجال، وهناك قصة أخرى معروفة بطلها كلب وحتى الجماد كالكرسي من أبطال إحدى قصصها، فكيف تكون الكاتبة كل هؤلاء.
إذا اعتقد الجميع كما تعتقد فأنتم تلغون الجانب الإبداعي عند الكاتبة. صحيح أن الكاتب يضع من شخصيته الكثير في قصصه ولكن ليس بالضرورة أن يكون الأبطال هم الكاتب نفسه، يا حيف عليك إذا كنت تفكر بهذه الطريقة، وأنت قد وهبت نفسك للكتب ومعارضها..
سألني شغيل المعرض وهو يشعر بالإحراج: هل الكاتبة تسكن في البلاد؟
- نعم. أنا اعرفها كما أعرف نفسي..
عندها، دخل احد رواد المعرض، فاعتذر مني وتوجه ليساعده وعند خروجي حاملة كومة من الكتب دخل صاحب المعرض وحييته بحرارة، وأجرى لي تنزيلات كثيرة على أسعار الكتب وبعد خروجي كنت ما زلت واقفة قريبة منهما. استمعت إلى الحوار الذي دار بين شغيل المعرض وصاحب المعرض:
- غريب أمر تلك المرأة، قد اشترت العديد من الكتب ولم تشترِ كتابا واحدا للكاتبة التي تحبها كثيرا وتعرفها جيدا..
- عن أية كاتبة تحكي؟
وعندما سمع صاحب المعرض أسمي، انفجر بالضحك وقال لعامله: كيف تشتري كتبها وهي الكاتبة نفسها بروحها ودمها، أكيد في بيتها أكوام من هذه الكتب التي تنتظر أن تُهديها إلى من هب ودب لأن اليوم، لا احد يشتري كتبا ولا احد يقرأ ومن يقرأ يريده هدية مجانا لوجه الله!!
نظر الرجل صوبي، رمقني شذرا وكاد يأكلني بعينيه وهو يغزل أفكارا بأفكار، ولكني تصنعت انشغالي بتصفح احد الكتب التي كنت أحملها وسرت مبتعدة.
وددت لو أرى تعبير وجه شغيل المعرض وكيف سيتستر بالأعذار مما قاله، اغتبطت جدا، ثم سرت بضعة أمتار وقررت العودة إليه لأساله: كيف تجرأ بقول، إن ما أكتبه ليس بأدب بل قلة أدب!
***
عزيزي القارئ، لا بد أنك ستعتقد بأن ما حدث، في هذه القصة هو حقيقي مئة بالمئة، ومرة أخرى ستلغي الجانب الإبداعي عندي ككاتبة.. صدق بأنني اختلقت كل القصة من أولها حتى آخرها.. وبأن النتيجة واحد/ صفر لصالحي!!