بؤس المشهد القومي... - يحيى يخلف
اللوحة السيريالية التي نشاهدها في كل يوم على شاشات التلفزة تنبئ عن فوضى ودم ومناف، وجزر معزولة، ولحى، وتكفيريين، وفضائيات لها أنياب، وبرامج حوار يتقدم فيها المحللون المتقاعدون، ويغيب عنها المفكرون والمثقفون، أحاديث في الهواء عن ديمقراطيات بلا ضفاف، لا تعبأ بمواطن عربي مقهور، والعنزة المذبوحة تسخر من العنزة المسلوخة، ووزراء من دول كبرى يتدخلون لصنع أقدارنا، وتقاسم النفوذ على منطقتنا، وحديث عن "جنيف 1"، و"جنيف 2" يتماهى مع ذاكرة "سايكس - بيكو"، ولا حديث عربيا عن الجرح العربي، وكل بمنفاه وجزيرته المعزولة، وتيارات إسلاموية جاهزة ومعلبة، وتيارات إسلاموية مستوردة تقفز على أكتاف الشعب العربي البسيط من جماهير المثقفين والمتعلمين والطلبة، وصغار الكسبة، وعبر الفضائيات يتحدث ليبراليون وعلمانيون، ولا حديث لقوميين، ولا حديث عن وحدة المصير القومي، أو التضامن العربي.. وفي الميادين والساحات التي تشهد حراكا شعبيا لم يرفع أحد شعارا واحدا ذا بعد قومي، ولم يتحدث أحد عن وحدة المصير القومي، واختفت شعارات الماضي عن الوحدة العربية كهدف من أهداف حركة التحرر العربي، وتراجع دور الجامعة العربية، وأصبح صوت البعض في داخلها صدى للتدخلات والمصالح الإقليمية والدولية.
ما عاد هناك حديث عن تطوير العمل العربي المشترك، أو التجمع في كتلة تاريخية تنتزع للأمة دورا في المشهد الدولي تكون فيها اللاعب الأساس في تقرير مصيرها، وحماية سياساتها واقتصادها وثرواتها، ومستقبل أجيالها.
ما عاد هناك حديث عن وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا والمصالح العربية، وما عاد هناك حديث عن الوحدة في مواجهة التجزئة، بل كبرت المخاوف من الآتي الذي يهدد بمزيد من التقسيم والشرذمة والانفصال. ذهبت جهود قسطنطين زريق وساطع الحصري وزكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة وبطرس البستاني وجورجي زيدان، ومئات غيرهم، وحركات سياسية وفكرية من ناصريين وقوميين عرب، ذهبت واختفت من المشهد، وصرنا لا نقرأ دراسات عن نقد الفكر القومي وتجديده، بل إن أحد المفكرين وهو فهمي جدعان استنتج في كتابه (في الخلاص النهائي) أن التيار القومي ما عاد له وجود حقيقي، وان الجدل والصراع سيكونان بين التيارات الإسلامية والليبرالية والعلمانية.
لا شك في أن التيار القومي أصيب بنكسة بسبب ربط الفكر القومي عند الممارسة بالقمع والديكتاتورية لدى أحزاب رفعت الشعار القومي، وعندما وصلت إلى السلطة أقامت نظما بوليسية قمعية لسيطرة الحاكم الفرد مثلما حدث في حزب "البعث"، ومثلما حدث في نظام ليبيا القذافي، فضلا عن ان بعض القوى الأخرى كحركة القوميين العرب تحولت إلى الماركسية، ثم إلى القطرية.
إن الأنظمة الاستبدادية التي حكمت باسم القومية العربية ألحقت أضرارا فادحة بالتيار القومي، وحان الوقت لتقويم هذه الخسائر، وتجديد فكر هذا التيار، وإعادة الاعتبار إليه، وإعادة النضارة إلى محتواه، بحيث يربط بينه وبين الديموقراطية والتعددية والدولة المدنية وسائر المطالب التي نادت بها الجماهير في ما أسميناه الربيع العربي.
لن يكون للدولة القطرية العربية قيمة ومكانة إذا استمر هذا التشرذم، ولذلك فإن الوحدة على اساس المبادئ والمصالح، وعلى أسس تحتوي على شيء من الليبرالية وفصل الدين عن السياسة، وتوسيع الحريات العامة والعدالة والكرامة الإنسانية، ستكون عاجلا أم آجلا مطلبا وضرورة إذا استكمل الربيع العربي غاياته وأهدافه، وإذا استهدفت هذه الصحوة التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحماية هوية الأمة، والتخلص من التبعية خاصة انها تواجه في الإقليم قوى تحاول النيل منها وفي مقدمة هذه القوى اسرائيل وأطماعها الصهيونية.
لماذا لا نفكر في ظل هذه الفوضى بما هو أساس وبما هو جوهري؟ ولماذا لا يساهم المفكرون في حوار بشأن وحدة المصير القومي؟ ولماذا لا يكون للوحدة بين أقطار العرب أشكال جديدة كوحدة أوروبا التي لا يربط دولها لغة ولا تاريخ مشترك؟ لِمَ لا يكون اتحاد عربي على غرار الاتحاد الأوروبي له سياسة خارجية واحدة وله عملة موحدة، وله نظام اقتصادي موحد؟ وبهذه الصيغة يحظى بمكانة دولية، ويعتبر أحد أبرز صناع القرار في العالم.
تحددث كثير من المفكرين ورجال السياسة عن أن الدول الصغرى ستدفع ثمنا باهظا في زمن العولمة، وأن الكتل السياسية الكبرى هي التي ستنتعش في ظل العولمة وثورة التكنولوجيا، وغني عن القول إن الوطن العربي سيدفع الثمن الباهظ إذا بقيت مكوناته دولا قطرية منعزلة، لذا فتوحدها مصلحة عليا، والاتحاد العربي القائم على مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة هو البديل من صيغة الجامعة العربية. وفي المشهد الوحدوي فإن الشعب الفلسطيني سيتمكن من التخلص من الاحتلال، لأن العامل العربي أحد ابرز العناصر المؤثرة في مسار القضية الفلسطينية. وغني عن القول أيضا إن الشعب الفلسطيني يقف في الخندق الأمامي للدفاع عن الهوية العربية بأبعادها القومية والإنسانية.