يوم استحضار أرواح الشهداء .. - ريما كتانة نزال
في يوم الشهيد، عدت إلى ملف الشهداء وقد انتفخ وتبعثرت أوراقه، إثر مرحلة لعبت بها التناقضات بروحي. كنت أتصفح فوضى الصور والأوراق، فتكشف الملف عن نافذة مفتوحة على وجع يسير في ممر ضيق ينتهي بجرح مفتوح على مصراعيه. أما الصور فقد وضعتني أمام زمن لم يعد موجودا منه إلا ذكرياته، حيث تغيرت الملامح وبدت العيْن لا تشبه توأمها.
ملف صادم يضعنا بمواجهة مع الكواكب السيارة التي رحلت تاركة الفراغ المظلم. لقد فات الكوكبة أن تترك من تراثها سوى ما علِق بالذاكرة وبعض الأوراق المبعثرة. مفارقات وعتاب الأوراق والصور تعبث بمشاعري وتأخذني نحو جلسة تستحضر الأرواح الغائبة وطرح الأسئلة بعد أوانها.
تحلقت الأيدي المتشابكة حول منضدة قصيرة الأرجل على وقع الأذكار والتراتيل، من بداية النص إلى نهايته، بالقرب من ذؤابات الشموع التي تقبل القسمة على ثلاثة، واستدعاء الأرواح الهائمة في الطقوس الغامضة.
حضر الشهداء بكامل بهائهم القديم وكأنهم لم يموتوا في أي يوم، حضروا كأنهم عائدون من مظاهرة حاشدة أو اشتباك روتيني أو اجتماع اعتيادي. تراءى لي أن الشهيد يخرج من الشهيد بكامل لحمه ودمه، ونخرج نحن المتحلقين حول المنضدة القصيرة الأرجل من قبورنا الدنيوية، بينما تصطك عظامنا من رهبة اللقاء في طقوس الأرواح.
حضرت أرواح الشهداء وفي حضورها فصل المقال. تدافعت الأرواح في زوابع جغرافية على شكل نبضات من مختلف أنحاء جغرافيا التشرد ومفاجآته المتوهجة، كانوا كلفحة ساخنة تبعث القشعريرة والخوف في العظام الناخرة، كانوا كأنهم عائدون للتو من اجتماع خفيف أو مظاهرة أو ربما من لقاء خاطف مع حب عميق.
فردت الأرواح أمامنا ما أخفوه في قبورهم من خجل يصعب الإحاطة برموزه ومشاهده، وما يخفونه من أسرار ومشاعر يفوق قدرة جلسة الأيادي المتشابكة حول الشموع التي تقسم على ثلاثة.
انسلوا من بين مفردات الزمان الذي يفرز المسافة بين انسان الماضي والحاضر، وامتلأت الحجرة بكلماتهم وتلاشى كل ما غيرها كالزبد.. كانوا الكلمات والعطاء والكبرياء والوجود والإباء والنهضة، وكنا العظام البارزة والوجوه الشاحبة، والقلوب التي توقفت عن النبض.
قالوا: لو تم التمسك بنا لما غابت شمسكم وتلاشت ريحكم. بالإرادة شكّلنا وبعثنا الحياة في فلسطين، وأعدنا الوجود للتاريخ وغيرنا القدر، وانتم أفسدتم الملفات المقدسة، وجعلتم فلسطين تخرج من فلسطين. وأضافوا بتعالٍ، للتاريخ: نصف حكاية الشهيد أو أكثر، وللجغرافيا: نصف أسباب الحياة والموت. وللمكان: نصيب في جميع حكايات المخاضات الصعبة، القديمة والجديدة، ويترك التاريخ للجغرافيا أدوات التحكم بالزمان والمكان المجهول والمعلوم، نصف الحكاية غيابكم عن الوعي، ونصف الحكاية أنكم من مدينة تنسى بسرعة، ولا تكاد تتذكر الشهداء أو تستحضرهم إلا في المناسبات والمواسم الخطابية.. نصف الحكاية أنكم سمحتم لهم ترككم على أبواب التسوّل، ونصف الحكاية أنكم لا ترتوون من بريق الحياة.. وأنكم بضاعة قديمة استهلكتها الجغرافيا ولا تصلح إلا لدى باعة التحف والكلام.
في زوبعة متوهجة انتهى يوم الشهيد، تفككت الأيدي المتشابكة وخبا وهج الشموع، وغادرت الأرواح في زوبعة عاتية إلى برزخها. في يوم الشهيد، لا تعتريني المشاعر والأفكار ذاتها التي طالما ظهرت على شاشتي، فالشاشة لا تعكس تلك الحالة الخاطفة التي يشعر فيها المرء بأنه أكرم ما يكون، ولا تلك النشوة المعتزة بتضحيات الشباب وسباقهم الزمن لبلوغ ما لم يدركوه في الحياة، ولا ترتقي لمستوى تدافعهم على أبواب الجنة استعجالا لرؤية الوعد في لقاء الحور العين، والتمتع بكل ما تحرِّمه الأرض وتحلِّله السماء.. هكذا فضلت أن احيي يوم الشهيد، لكنني لا أنصح أحدا أن يحيي الذكرى مثلي.