تغيير في قواعد اللعبة- حسين حجازي
لا يرتدي بزة عرفات العسكرية ولا يضع كوفيته الشهيرة على رأسه، يعيد ترتيبها بدقة وعناية لكي تلائم أو تحاكي قبة الصخرة وخريطة فلسطين، تتدلى على ذراعه لتتصل بمسدسه المنسل من حزامه. هكذا حتى لَيبدو رمزياً كتمثال حي، ذاك هو الذي يرمز إلى الأسطورة أو الجليل في قداسته بعد موته، لا ولا يشبهه حتى في خطابه، ذاك السلف الذي يحرص على ان يخفي ما في قلبه وباطنه عن لسانه، وهذا الخلف الذي لا يخفي ما في قلبه عن لسانه. ليس هو عرفات في الشكل والصورة ولا كذا في الأسطورة أو في الحرب على جبهة الرموز، وكذا في الاستعداد لخوض الحروب التي لا تنتهي بالانتقال السريع والمرن في كل مرة من طاولة المفاوضات الى إطلاق الرصاص، ولكنه العرفاتي في واقع الأمر المجرد من كل هذه الثياب البطولية القديمة، أو هالة الأسطورة، محمود عباس أبو مازن
قال شمعون بيريس ذات مرة إن المشكلة ليست في عرفات وإنما في موقف شعبه، وقد وصف عرفات حين كان لا يزال يلقي بحكمته على الجميع بالأُسطورة، وأضاف إنه حين يتعلق الأمر بالأسطورة يجب التوقف عن الكلام، وذلك قبل ان ينتهي به المطاف في تقلب الأدوار الى غض النظر عن قتل عرفات، واليوم لعله أبو مازن يبرز في دور عرفات باعتباره معضلة أو المشكلة، ولكن المشكلة أو المعضلة التي تطرحها شخصيته بخلاف عرفات، انه إذ يفضل الظهور كمحارب متقلد سيف القوة الناعمة ووسائلها وأدواتها عن إيمان وقناعة حقيقية، فإنه يطرح أمام العدو مشكلة حقيقية في الطريقة او الوسيلة التي يمكن اتباعها للتخلص منه إذا كان من الصعب التشهير به وقتله، بحيث يبدو أن المخرج الوحيد في مواجهته هو الدسائس أو المؤامرات الخفية، وهي إمكانية يبدو أن الرجل تمكن لسوء طالع السيد نتنياهو من قطع الطريق عليها، حينما ظهر أمام شعبه الأسبوع الماضي في جرأته وصلابته وقوة تحديه، كظل حي لعرفات ما استدعى هذا الاندفاع الشعبي العاطفي من لدن الفلسطينيين، الذين خرجوا ليلا بعفوية إلى مقر إقامته في المقاطعة برام الله لتحيته.
لقد كان بطلاً حقيقياً في نظر شعبه وهو يظهر في مشهد التوقيع على انضمام دولة فلسطين إلى الـ 15 اتفاقية ومعاهدة ومنظمة دولية، وإذ حاول نتنياهو إخفاء الضربة التي تلقاها بالادعاء المضحك على طريقة الصبية الصغار، الذين يحاولون الحفاظ على ماء وجههم بعد صفعة مهينة يتلقونها أمام أقرانهم، إن أبو مازن في هذه الصفعة الفلسطينية إنما أنقذ حكومته من الانهيار في اللحظة الأخيرة. لقد أنقذ كرامة الفلسطينيين وشعبه بهذا الموقف، وقد كانت هذه المسألة الحقيقية بالأخير، وهو استطاع أن يثبت قدرته وتصميمه للمرة الثانية في مواجهة غطرسة إسرائيل. المرة الأولى في المضي قدماً للحصول على اعتراف العالم في الأمم المتحدة بدولة فلسطين، والثانية في تفعيل انضمام دولة فلسطين إلى الاتفاقات والمنظمات الدولية.
ان التحول الراديكالي حدث في الواقع حين تم الاعتراف بدولة فلسطين، وهذه هي النقلة النوعية والتاريخية التي غيرت المعادلة، التي جعلت من الممكن للرجل أن يوجه الإنذارات لأول مرة إلى إسرائيل "إذا لم يخرجوا حتى يوم الثلاثاء سوف نقدم على اتخاذ الخطوات الحاسمة". إن الفلسطينيين أصبح لهم خيارٌ أو باتوا يملكون أدوات الضغط، ليس بالذهاب الى الانتفاضة الثالثة ولكن بشد حبل الطوق على رقبة إسرائيل، في إطار القوة الدبلوماسية الناعمة حتى بلوغ واكتمال ذروة اللحظة الجنوب إفريقية، التي بدأت فعلياً معالمها بالتكون والنضوج.
هذه كانت ضربة معلم من تحت الحزام، برافو أيها الرئيس. امضِ في هذا الطريق الى الأمام سر، ووجبة وراء وجبة حتى يفقدوا توازنهم ليكونوا عبرة أُخرى في التاريخ مثل أقرانهم العنصريين الجنوب إفريقيين، امضِ ولا تبالِ فهذا هو الجواب بالأخير.
ولقد بلغنا ذروة أُخرى على قوس هذه الأزمة التي ما كانت سوى سلسلة متصلة من هذه الأزمات المنكودة كذيل طويل سيئ. ولكن ما يحدث اليوم عند ذروة هذا الانسداد هو بلوغنا لحظة السأم أو الملل أو الضجر، والتي ليست سوى حالة من الشعور والإدراك باليأس العظيم، وهي حالة اليأس دوماً التي كانت الممهد لاقتراب موعد زلزلة الساعة الكبيرة، إذا كان الوضع الذي يرتسم أمامنا هو من قبيل تبلور اكتمال ونضج الاشتراط الثوري، بشقيه الموضوعي والذاتي على حد سواء، فلا عدنا قادرين على مواصلة السير على نفس الطريق التي انتهينا إليها من هنا، ولا عاد بمقدور الإسرائيلي ان يواصل لعبته بكسب الوقت عن طريق الخداع والحيل كما كان يفعل من قبل، وهكذا من هذا المنحنى ترتسم وجهة السفر القادمة، مزيج متداعم ومتداخل من الاشتباك السياسي الدبلوماسي والحربي على حد سواء.
إذا كان قد ثبت الآن بأنه ليس بالمفاوضات أي بالكلمات أو الذوق تحل، وإذن ليس من خيار سوى الحل عن طريق الإكراه الدبلوماسي، كما اتخذ القرار الخطوة الأولى الافتتاحية لأبو مازن، والتي سوف يليها حتما في وقت لاحق انفجار صبر الفلسطينيين، وحيث لا يبدو أمامهم أي أمل بالخلاص من هذا الوضع الذي لا يطاق غير أن يقوموا بقلب الطاولة أمام إسرائيل.
هذا هو الوضع الذي يرتسم إزاء المستقبل والذي لا يحتاج الى عبقرية لاكتشافه، فإذا سدت الطرق أمام الحل التفاوضي السياسي، فنحن اليوم إزاء الوضع نفسه عشية الانتفاضة الأولى نهاية عام 1987، والانتفاضة الثانية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، ولكن مع فارق حاسم وجوهري هذه المرة أن الأمر يتعلق بتململ دولي لا سابق له، وفلسطيني داخلي في تدفيع إسرائيل الثمن، ثمن تجرؤها على مواصلة الوقاحة حتى إلى حد الاستخفاف بالغرب الأميركي والأوروبي، وتجاهل مصالح هذا الغرب في محاولته اليوم إغلاق هذه البؤرة في لحظة من صراع هذا الغرب، في مواجهة صعود أقوياء جدد في العالم يهددون قدرته على مواصلة حكم العالم كما في السابق.
ولعل ميزة الثغرة النوعية في القيادة بين أبو مازن ونتنياهو تتلخص في ان الرئيس الفلسطيني هو الذي يدرك مغزى هذه الظروف المواتية اكثر من الثاني، وهو في الواقع يلقي بالنرد في اللحظة المناسبة إذا كان العالم يبدو اليوم اكثر من أي وقت مستعداً لمعاقبتهم، وربما كان هذا العالم ينتظر أن يعطيه الفلسطينيون الكرة لنشهد من الآن بدء لعبة جديدة.