أوركسترا خليل الوزير- د.احمد جميل عزم
أُخرج من الوطن فصنعَ ثورة. أُخرجَت الثورة من لبنان، فعاد إلى الوطن.
أخرجوه فتى يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً من الرّملة، التي اختارها الأمويّون عاصمة لفلسطين في القرن الثامن الميلادي، فبدأَ بالعمليّات العسكرية قبل أن يبلغ العشرين؛ يقود عشرات الشبّان من مخيمات اللجوء في قطاع غزة. ثم ذهب إلى الإسكندرية، والسعودية، والكويت، والجزائر، وصنع ثورة.
لو قُيّض لخليل الوزير (أبو جهاد) ملحن لائق، يَكتُب سيرته موسيقيّاً، فسيسكب ألحاناً كثيرة يجدلها من مناطق وشعوب وأماكن لا تتوقف. ربما يفتخر شُبّان الآن بشبكات علاقاتهم في بلدان مختلفة، ينسجونها بـ"الفيسبوك" والبريد الإلكتروني وغيرها، لكن أعتى شاب يستطيع التركيز على قضية واحدة، في مخيم فلسطيني، أو لأجل مناسبة في يوم معين، أو قضية ما. أمّا سيمفونية الوزير، ومنذ مطلع الستينيات، فتعطي الملحّن الموسيقي نغمات جزائرية، وفيتنامية، وكوبية، وصينية، وشاميّة، ومصريّة، وتشتد فلسطينيتها في الثمانينيات.
في مدن وعواصم شتى، ما يزال هناك مقاتلون وأشخاص، سيُخرجون لك من مكتباتهم ومخابئهم رسالة أرسلها لهم خليل الوزير، أو أرسلوها إليه فردّها ممهورة بالإجابة.
ضربات البداية عن خاتمة قويّة متدافعة: هل هُناك مُلحّن قدير يجسّد روح أغنية غناها شبّان في الأرض المحتلة، عنوانها "والله لانزل دوريّة على هالصهيونية..." في الثمانينيات؟
عِندما تآلب الإسرائيليون و"عرب الممانعة" على إخراجه وقوات الثورة من لبنان، قرر تسريع "العودة للداخل". ربما لم يقرر وحده، بل الظرف الموضوعي أَيضَاً، وقرر شبّان فلسطين أنّه بعد العام 1982، انتهى بالفعل العصر الذي كان فيه الثوّار يتركون الأرض المحتلة، من حيفا والناصرة وقَبَلان وسَعير وكفرنعمة وبلعين والبروة، ويَذهَبُون إلى الثّورة في بيروت والجنوب. وبدأ العصر الجديد، وقرر الشبان بقيادة الوزير أنّ عصرهم بدأ في الأراضي المحتلة.
يقول كادرٌ فتحاويّ سابق، في جامعة اليرموك بإربد في الأردن، في الثمانينيات، أن تعليمات أبو جهاد كانت واضحة: "ابحثوا عن كل طالب يأتي من فلسطين للدراسة في أي جامعة، ابدأوا بمساعدته في حياته الشخصية وترتيب شؤونه الدراسية، ثم ازرعوا لديه فكرة أنّ عودته للحياة في فلسطين هي قِمّة الشرف؛ وهكذا ينتهي الجزء الأساسي من مهمتكم. بعد هذا اختاروا من هؤلاء من يناسب "للتنظيم" وافرزوه؛ فمن يصلح للعمل العسكري نرسله للتدريب، ومن يستحسن ذهابه للعمل الجماهيري نُعدّه". وقصص النقابيين والشبان والصحفيين الذين كانوا يأتون من فلسطين ويقابلونه ويزودهم بتوجيهاته، كثيرة.
ويخبرني مساعد مقرّب منه أنّه كان منهمكا في سنواته الأخيرة بالبحث عن قيادات من شبان الأرض المحتلة. فلم يكن يريد نقل ثقل العمل للداخل، بل وحتى نقل القيادة. فلو كتب موسيقيُّ اللحن باقتدار، ستخرج صورة مروان برغوثي في ذكرى أسره، هذا الأسبوع، قبل يوم من ذكرى اغتيال الوزير، وصورته قائداً شبابيا وطلابيّا أواسط الثمانينيات في فلسطين.
في خطواته الختامية، كان يعدّ سفينة تحمل آلاف اللاجئين؛ سيتجهون إلى يافا وحيفا قسراً أمام الإعلام. فأرسل الإسرائيليون قوة اغتالت قبل شهرين من اغتياله، فرسانه المكلفين بالمَهَمّة: حمدي (باسم التميمي)، وأبو حسن بحيص، ومروان كيالي، في قبرص. وفي ضربات الختام، عملية ديمونا لضرب المفاعل النووي الإسرائيلي، في الشهر السابق للاغتيال.
لكن أوركسترا الوزير أقدم؛ فقد ذهب إلى الجزائر مطلع الستينيات يفتتح مكتباً للثورة. وهناك، أحضر طلابا فلسطينيين للتدريب على حرب العصابات، من أماكن عدة، من بينها ألمانيا. والتقى بقادة ثورات فيتنام وكوبا، وثورات الأفارقة ضد الاستعمار البرتغالي. وزار مع وفدٍ الصين، حيث مُنحت الثورة 7 آلاف جنيه استرليني. وقبل ذلك، اتصل بصديقه من غزة يحيى عاشور، الذي كان يدرس في النمسا؛ واتصل بالزعيم الطلابي صالح الكعكباني في إسبانيا.
كان إذا جلس وحده في مكتبه، أو مع مساعد، أمامهما علبة حلوى جاءت مع رسول قدم من الأرض المحتلة، يحمل "كبسولة" في أمعائه، فيها رسالة من السجون. كان يصنع قادة، ويُرسل سُفنا ومقاتلين، ويكتب رسائل للقيادة الوطنية الموحدّة، ويتصل بحماس والجهاد الإسلامي مثلما يتصل بفتح. كان قبل زمن العولمة يمد نظره ويتابع شؤون فلسطين في كل العالم، ويتكامل شأن الوطن أمامه كما يتكامل لحن مَلحَميّ.