"مي" مع "ملح الأرض"- د.احمد جمل عزم
كم هو صعب الانتظار؟ يَلعب العالم بأسره لعبة الانتظار.
حتى في مسابقات الغناء الصاخب، يتلاعب المذيع بالأعصاب، وتدّق الطبول؛ والهدف "استفزاز" دقات القلوب والتشويق ضمن ملهاة تجارية.
الانتظار أصعب أحياناً.
هناك قوانين انتظار صاغها الإسرائيليون. يمكن للجندي، مثلا، احتجاز أي فلسطيني ثلاث ساعات من دون إبداء أسباب. كذلك نعرف مرارة الانتظار على الجسر في الطريق إلى فلسطين.
رجل في الأربعين يقول: أتذكر وقوفنا طوابير سيارات تمتد كيلومترات، في أريحا، لنبلغ الجسر. وكان الأولاد يتقافزون من السيارات بشقاوة، والسائقون مُستَفزّون. وأذكر يوماً كنا مع والدتنا في المقعد الخلفي للسيارة، وفي المقعد الأمامي عروس مع عريسها. أتذكرها، ربما بعد ساعتي انتظار أو ثلاث، التفتَت نحو والدتي تمدحنا، وتقول: هدوءُ أطفالك استثنائي. لم يطل الأمر، شعرتُ بدوار ورغبة في التقيؤ. فهِمت أمي الأعراض، ففتحت الباب بسرعة وقفزت أتقيأ خارجاً.
ويتابع: في طريق العودة من الأردن، اضطررنا يوماً للنوم انتظاراً على الجسر. يومها عثرنا، نحن الأطفال، على قناة مياه، لهونا فيها.
ما نزال ننتظر: نجد أنفسنا في حافلة فوق الجسر على نهر الأردن، مع 50 شخصا لديهم أمراضهم ومشكلاتهم وأعمارهم، ومدخنين عصبيين ينتظرون لحظة التدخين. ننتظر إشارة إصبع جندي يقف عادة في موقع قَتل القاضي رائد زعيتر. تبدو هذه الانتظارات هيّنة، وأنت تفكّر بانتظارات "معتقل إداري"!
كان عبدالرازق فرّاج يتفوق بهدوئه على وَلَد الجسر. ولأنّ اللغة حبيسة الحدث اليومي، كانت أمّه في مخيم الجلزون تمازحه فتقول: هل نستخرج لصوتك تصريحاً مثل تصريح الجسر حتّى يخرُج؟ كانت عيناه تضحكان ويَفتُر عن ابتسامة، ويعاوِد الصمت.
يعني الاعتقال الإداري في السجون الإسرائيلية تقديم مخابراتهم ملف اتهامات سريّ للقضاة، لا يعرف حتى المُتّهم ما فيه، فَيحكم القاضي بسجنه أشهراً.
من حُكِمَ سنوات طويلة أو قصيرة، يعيش مدركاً إلى حد ما ماذا ينتظره. أمّا الأسير الإداري، فيعيش هول انتظارين: أولاً، انتظار نهاية مدة الاعتقال المقررة. وثانياً، ما إذا كان سيتم التجديد له! وربما انتظار ثالث؛ متى يخرج من زنزانة انفرادية؟
لفتَ هدوء عبدالرازق فرّاج القاضي الصهيوني، فقال له: "تَبدو ناعماً. ولكن طريقة تفكيرك خطرة".
ربما يكون هذا الهادئ، الذي دَرسَ الاقتصاد، وحصل على دبلوم عال في إدارة المنظمات غير الربحية، وحُكم أول مرة ست سنوات بين العامين 1985 و1991، من أكثر من قضى فترات السجن الإداري. فمنذ العام 1994 وحتى اليوم قضى عشرة أحكام إدارية، مجموعها 2800 يوم.
عندما وقع مروان البرغوثي أسيراً نهاية السبعينيات، ضربوه على الأعضاء التناسلية، وقال له الضابط: "سأقطع نسلك". ولذلك، عندما أبلغه المحامي في اعتقال تالٍ نبأ ولادة ابنه البكر "قسام"، وكان وباقي المعتقلين قد أمضوا أسبوعين يُضربون عن الطّعام، عاد فرحاً يتحلّق حوله الأسرى الجوعى، فيقدّم لهم "حلوان"، هو بعض الملح؛ فالمُضرب عن الطعام يُسمَح له ببعض الملح لئلا تتعفن أمعاؤه!
يبدأ الآن عبدالرازق، ومعه نحو 150 أسيراً إداريّاً، الشهر الثاني إضراباً عن الطعام، في مسعى لوضع حد لسياسة الاعتقال الإداري. وعض الأصابع في هذا الإضراب غير المسبوق؛ فالسجانون صادروا الملح من الأسرى، ويُسّربون أنباء عن انتظارهم موت أسرى، في رسالة أنّهم لا يكترثون.
يقول الذي كان وَلَداً تقيّأ في حرّ أريحا: عندما أصبحت مراهقاً، أقيم خارج فلسطين، صرتُ أشتهي غبار أريحا. ويضحك: "أحببتُ فتاةً لعبتُ معها قرب قناة المياه تلك".
قبل أسبوعين، صعدَ باسل عبدالرازق فرّاج منبر المتفوقين في جامعة إنديانا، وتحديدا في كلية إيرلهام، إحدى أهم عشر كليات للعلوم الإنسانية في الولايات المتحدة، متحدّثاً في حفل التخريج الـ167 للكلية، ليقول: "ما كنا لنكون هنا من دون عناية بعض من يشاهدوننا الآن". وتَحدّث عن البعض الذي "لا يمكن أن يكون هنا أو يشاهدنا عبر الإنترنت (...) مثل والدي الذي دخل يومه الحادي عشر إضراباً عن الطعام، لا يدخل جسده سوى الماء، هو وأسرى حرية فلسطينيين آخرين".
في إنديانا انتصر عبدالرازق وأمه بفضل الابن باسل؛ هو ملح الأرض، اجتاز الجسر وتحدّث.
في معركة الأسرى وعَضّ الأَصابِع، والانتظار المميت، استمرار صمتنا وبقاؤنا خلف شاشات الكمبيوتر، وفي بيوتنا، مميتٌ أكثر.