زغرودة وشارع- د. احمد جميل عزم
خرجتُ يوم الأحد، 22 حزيران (يونيو) الماضي، مبكّراً إلى شوارع رام الله، لإنهاء بعض الأمور قبل بدء الازدحام المروري. ولم تكن الساعة قد بلغت السابعة عندما وصلت قلب المدينة، وتحديداً دوّار المنارة؛ أي دوار الأسُود الذي كان يقف عليه خطباء الانتفاضة الثانية، يتحَدّون الطيران الإسرائيلي.
شارع "ركب" المتصل بالدّوار، من أول ما يجذب زوّار رام الله. وهو شارع عادي، يقف على جنباته الشباب، وتسير فيه الفتيات. وفيه عدد كبير من محلات "الشاورما"، معروف باسم محل البوظة الشهير فيه. بالنسبة لي كشخص يحتفل اليوم بالذكرى الثانية له "للعودة" ليعيش في فلسطين، فإنّي بتُ أخشى أن أعرف المزيد من خفايا الشارع. كان المشهد غريباً بامتياز؛ كميّة هائلة من الحجارة تفترش الأرض، بأحجام ليست صغيرة، في محيط شوارع فرعية عدّة. هل يعقل أنّ هذه نتاج مواجهات حدثت ليلاً؟ هل دخل "الجيش" هنا؟ انتابني شعور بالصدمة. قرأ شاب الذهول على وجهي، فقال: "اذهب وشاهد الشهداء؟" قلت: أين؟ قال: مقابل محل "الوردة الحمراء". ذهبت مذهولا، ووقفت بين الحشد. نزلت قوات الأمن الفلسطينية من بناية تحمل جثمان شهيد، وانطلق الحشد يُكبّر ويهلل ويهتف للشهيد.
عمّال البلدية "ينظفون" كل شيء، وآثار الليلة الماضية تختفي سريعاً.
أرسلت لي صديقة تقول: شهيد اليوم، محمد الطريفي، من جيراننا، وهو شقيق الشهيد إياد. نقلت قصةً عن أختها: كانت أم إياد جارتنا، وفي يوم كان التلفاز يبث صور دخول شهيد على أمّه التي تزغرد. فتساءلت أم إياد: هل يعقل أن تزغرد الأم عندما يدخل ابنها وقد فارق الحياة؟ هل يفعل قلب الأم هذا؟ صارت أم إياد أم شهيد. وكانت الأخت في البيت لحظة دخول الشهيد، وزغردت أم إياد، وخرجت خلف الشهيد تزغرد، والآن هي أم شهيدين.
بقيت قصّة الزغرودة تداهمني، خصوصاً كلما مررت بالشارع الذي يمتد أقل من مائتي متر. أصبحت مُثقَلاً بما أعرف ولا أعرف عن الشارع، خلف غلالة الخِفة التي تتسربل بها قصص الشهداء: إلى بناية مقابلة لمكان استشهاد محمد، جاءت قوات الاحتلال عقب انتفاضة الأقصى تعتقل ناشطاً، وسدوا مداخل البناية الشهيرة بمقهاها ومقاهي الإنترنت. وسرعان ما بدأ الشباب المواجهة بالحجارة. وفي النهاية، أفلت الناشط فيما استشهد عدد من الشباب.
في مخيطةٍ على الدوار، كنت أجلس فيها مع ريادي من مناضلي السبعينيات، يخبرني قصة معركة دامية غطى فيها الدم الأرض بين عناصر من حركة الشبيبة وعملاء لإسرائيل أول الثمانينيات. اقترحت أن نطلب إفطارا من مطعم حمص وفول قريب، أعلمني صديقي شقيق الأسير القيادي، أنّ شقيقه والقياديين الشباب الآخرين كانوا يتخذونه المكان المفضّل للقاءاتهم، وهنا داهمهم ضابط مخابرات، وجلس لطاولة الإفطار، ثم ذهب. فرد الخياط القائد شبه المتقاعد، بإيجاز عن مطاعم الشارع مصنفاً إياها من حيث وطنية أصحابها، والجودة في الطعام. قُربَ "ركب"، أخبرني قائد عن عملية بنك ليئومي العام 1973، وكيف أوقعوا الجنود وهربوا. قريبا من المكان، دخلت صالون حلاقة عتيق، يضع يافطة طريفة: "إذا كنت مريضا أرجو تأجيل حلاقتك، حتى لا تنقل العدوى". بعد أيام، كنتُ أقرأ سيرة مناضل اختفى عن الاحتلال تسع سنوات؛ قرأت كيف اندفع مرة وهو صبي إبان مواجهاته مع الاحتلال وكسر زجاج صالون الحلاقة نفسه.
لماذا تزغرد الأمّهات؟ الزغرودة في الصوت ليست بعيدة عن الولولة. وبالإنجليزية، فإن اللفظة أقرب للصوت الفعلي للزغرودة، ولكلمة الولولة "Ululation". عُرفت الزغاريد في الإرث المصري، كما في نقوش الأهرامات والإرث اليوناني والهندي. وفي التراث "الشامي" (بلاد الشام) فإن الزغرودة مرتبطة بطقس آخر هو "المهاهاة"، وهي كلمة يعتقد أنّ أصلها آرامي، وتعني المباركة، وخصوصا أثناء طلب البركة أو الصلاة للآلهة.
هي اجتماع الأصوات بأكثر حدة ممكنة للتعبير عن أقصى معاني الشعور الواعي وغير الواعي. استغربت أم إياد من زغردة أم الشهيد، لأنّها من شعب "يحب الحياة"، وربطت الزغرودة بالفرح فقط. ولكن عندما جاءها ابنها الشهيد، استفز فيها كل المشاعر، وكان صوت الزغاريد هو الأقدر على التعبير عن حدة المشاعر المختلطة.