ألم الذاكرة ...ودرب الشموس - ثروت زيد الكيلاني
مددت يدي متوغلاً بالقاع حتى الدسم، وأرسلت لهم صفائح ذاكرة تتوجع من ثقل الألم، في وهج الفضاء نناجي من نعته الكثيرون (بابن العم)، أرسلنا بطلب تدابير تخفف من معاني واصطلاحات خطاب مشبع بالزخم، بيد مخفية قابَلَ صراخ العلَن بسيل من الذم والتهم، رماني بجمر لا يخلو من الحمم، جعل ليل طفولتي يلمع بوميض الموت المكفن بشهوة العفن، أطاح بزرع أمي حتى عاد خارج القطاف، نال من امرأة قضت ردحا من الزمن تبشر بمولود يأتي بعد يوم، هز أرجاء الزمان بغير موعد والناس صيام، كان الأبرياء ينتظرون آذانا يذكر فيه اسم الله والكف عن الطعام، جاءهم يلطم الخد بحرمان الطعام، شهب ناري سكن الشيطان في حلقه لينال من مخزن الأحلام، وأحال أبراجا تعالت فوق الرمال إلى ركام.
تداعت كل الصحون الناقلة للصوت والصورة صوب غزة هاشم، يبحثون عن خبر يومي يتضمن ضربة صاروخية أو قذيفة مدفع، لا يرجى من وصف الحدث في زمن الصورة مرجع، يتدافع الأبرياء هربا من هول الحمم الساقطة فوق البيوت والسهول وفي كل مهجع، لم يلبث ناقل الخبر إلا أن حط الرحال وأصبح جزءا من الحدث، تطارده القذائف من زقاق إلى رواق إلى طريق ملتف وبناية ترفعت فوق الجميع، من لم ينزف دمه نالته رشفات الدم من امرأة أو طفل أو شيخ شهيد، رائحة الدم تنتشر في كل مكان، تختلط فيه معالم النفس البشرية بالأخرى، وفي كل جزء من الزمن الغزيّ قطرات من دم بريء، ومعداد وكالات الأنباء جعل من الضحايا أرقاما في المزاد.
رمال البحر شاحبة تنعى صيادا يتجول بين طيات الموج باحثا عن رزق يطفو في ماء لوثته أياد أثيمة، وعند عودته بعد مطاردة غير متكافئة من بوارج الموت، يرسو بقاربه الهزيل على الرمال الباردة، تلاحقه رصاصات الغدر الآثمة لتنال من معالم جسده النحيل ويفقد ملامح الصورة، تقتل حلم طفلته الصغيرة بعروسة من الدمى تلهو بها في عيد الفطر الذي لم يظهر هلاله بسماء غزة، دموع اختلطت بقطرات الدم والعرق لتفوح منها ريح المسك التي وعد بها الشهداء، ويطوي شاطئ غزة مرساة صياد آخر يلتحق بطوابير الأشرعة التي أنهكها الأمل والألم.
في سماء وطن العزة أقمار تبتهل، نجوم تتلألأ في زحام تنافُس الأرواح للارتقاء عند العظيم الأجل، وزغاريد الأمهات بأعراس الشهادة أضحت مضرب مثل، يتدفق الخير من طين أرض المقدسات في أعلاه ومن الأسفل، ميزة تجعلنا نمضي في ذكرى توحدنا وتجمعنا في تكاملية الذات التي تحقق الرجاء والأمل، استجمعت ذرات ترابها ورمالها لتجبل بدم الشهداء، تأبى الري إلا بعرق الشرفاء، تحتضن في حجرها برفق المخلصين والأنبياء، طيّعة وبمحض إرادتها تسخر بطنها ممرات تصل إلى كل محظور بفعل نار الجبناء، تتفوق رمال غزة على تقنيات حديثة فتجعل الغلبة خلف خطوط الأعداء، تحمي الزاحفين في أحشائها وتطفئ غرور الغرباء.
تَفجَّر تدبير الحقد العنصري في الشجاعية، جمع حشده الزاحف والمجنزر والمحلق بالسماء والمترجل على الأرض مدنسا لها، ينهال بكل ما أوتي من عتاد لا يفهم إلا لغة النار والانفجار، أصبحت طرقات الشجاعية مزدحمة بكل أنواع الدمار، مزيج لا تجانس فيه بين لحم بريء ودم طاهر طهور وعويل امرأة على طفلها وأرملة على فقدان زوجها وتلك النائحة على عزيز لها هو حلمها وغير ذلك من وهج الحب والحنان بحكم علاقات إنسانية ترتبط بلزومية الحياة ولا تنتهي بلحظة الموت، لله درك شجاعية الشجعان أهلك قرروا بإيمان عميق أن بطن الأرض خير من فوقها، تنادوا مسرعين ليلتحقوا بأهلين خير منا، وهل هناك خير من ركب الشهداء؟
تجربة أهل الرباط غنية بفعل الثورة وحكم الخبرة، ساحات جاراتنا شاهدة على حسن صنيعنا، نعمر بيوت الجيران بالفكر والمعول، ودم العروبة في العروق تأصل، توشحنا بميزة الحالة الفلسطينية، ودرب الشمس لها إسقاطات دعائية وأخرى فكرية، والانتقال بالفعل المنظور من موسمية الحدث إلى ديمومة الحالة له استحقاقات لا بد من إيفائها، التوافق على رؤية تشق طريقها من بين محطات التاريخ المتراكم صوب أفق لا سحاب فيه يحول بين رضيع قريتنا والشمس أمر واجب وحتمي، في وطن الأنبياء يكرم الإنسان على كافة المخلوقات، وهو رأس المال الوطني الذي يستثمر ولا يستغل، يقاد لأنه يعي مفهوم الحياة المدنية ولا يساق، يؤمن أن التحول من عشوائية الفعل إلى استدامة العطاء الذي يتطلب إستراتيجية وطنية نضالية شاملة تليق بكل ما هو مقدس في ثقافتنا وتاريخ أمتنا.