مهدي ابو عبيد.. الامتحان الاخير- عيسى عبد الحفيظ
الشاب مهدي سمير ابو عبيد الطالب في مدرسة رام الله الثانوية في عامه الدراسي الاخير، كان يستعد لاجتياز امتحان الثانوية العامة مفعما بالأمل في مستقبل واعد. شاب في مقتبل العمر لم ينه عامه الثامن عشر، ذو قامة رياضية واحلام كبيرة كان على رأسها العيش في وطن حر، وهو يرى اللد بأم عينيه غير بعيدة جغرافيا لكن دونها خرط القتاد.
مهدي الذي رأى النور عام 1985، كان قد ودع شقيقه محمد الذي ارتقى قبله الى جنان الخلد، ما زاد في حقده على الاحتلال. نشط مع الشبيبة في كل الفعاليات النضالية وخاصة الصدامية منها. لم يكن على استعداد لرؤية الدوريات الاسرائيلية وهي تجوب شوارع رام لله إما لاغتيال النشطاء من الشباب، او الاستعراض وابراز العضلات وفجور الاحتلال.
وحين احتدم الوضع بالمواجهة شبه اليومية واصبح اتفاق اوسلو في مهب الرياح العاتية، قلب الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات الطاولة، وتحولت الانتفاضة المزودة بالحجارة الى رصاص، فقد الاحتلال اعصابه ووضع قائمة باسماء من صنفهم بـ (الخطيرين) لتبدأ عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية جهارا نهارا.
كان الشهيد بسام لطفي الاشقر احد هؤلاء الذين قررت القيادة الاسرائيلية تصفيتهم جسديا. وعلى دوار المنارة كانت قوة من الجيش والمستعربين بانتظاره مع زميل آخر. لاحظ بسام الحركة المشبوهه فقام بفتح النار على القوة التي احتمت خلف السيارة وردت على النار بكثافة كما هي العادة فارتقى بسام الى العلا، واصيب رفيقه بجروح خطيرة.
مهدي الذي لم يكن مطلوبا، والذي انجز امتحانات التوجيهي نصف الفصلية، هرع الى دوار المنارة وكأن حدسه قد أنبأه مسبقا بأن الشهادة بانتظاره. التفت الى صديقه تامر قائلا إنه سيتصدى فأما استشهاد وأما عودة الى البيت. وبدأت المعركة التي تفتقر الى ادنى مستويات التكافؤ. قوة عسكرية جرارة مزودة بكل انواع الاسلحة والحماية، وثلة من الشباب الذي لا يملك الا كومة من الحجارة والايمان والتصميم على المواجهة حتى بالصدور العارية. ويبدو ان قذف الحجارة من مهدي كان موفقا فقام احد الجبناء من (الجيش الذي لا يقهر) بالتصويب على صدر مهدي العاري تماما من اي حماية، والمكشوف امام السماء والارض كقمم الجبال الشاهقة، واطلق رصاصة واحدة كانت كفيلة بارتقاء مهدي الى السموات العلى.
هرع الاصدقاء والشباب وفي مقدمتهم تامر صديقه المقرب وزميله في المدرسة، تمتم الشهيد ببضع كلمات غير مفهومة، وكأنه يريد القول إنه تنبأ بذلك قبل وصوله الى ساحة المواجهة على دوار المنارة، فأسلم روحه قبل وصوله الى المشفى.
مهدي ليس استثناء في الحالة الفلسطينية التي قدمت وما زالت تقدم كل يوم قوافل الشهداء منذ عام النكبة. منذ ان غادر والده الحاج سمير ابو عبيد مسقط رأسه وبيته في فلسطين التاريخية ليستقر في رام لله.
تغير المكان لكن الزمان لم يتغير فبقيت ذكريات البيادر والخوابي والطفولة ومطاردة العصافير في البساتين وصوت الحجل في الكروم والجبال تلازمه في كل ليلة يضع فيها رأسه على الوسادة. اللد لا تبعد عن رام لله كثيرا فهي في الليل تشع بالاضواء وكأنها تنادي وتستصرخ الاهل للعودة. اللد سبية تنتظر من يفك اسرها. مهدي احد ابنائها من الجيل الثاني، حدثه والده عنها وعن ذكرياته فيها فاختزن عقله ذلك، وحملت عاطفته بعضا من تاريخها، وتكدس في ذاكرته كم هائل من الحكايات.
قرر مهدي ان يترجم كل ذلك الى واقع، وقرر العودة على طريقته، فانضم الى سرب السنونو الذي يعود من هجرته القصيرة في ذلك الوقت من العام الى البيادر، ليبني اعشاشه من جديد استعدادا للموسم المقبل.
تكبر العصافير وتبدأ بالطيران من والى الوطن. مهدي كان من السرب الذي يعود من رحلته الشتوية الى اغصان الزيتون المخضرة دوما، ليبني عشا جديدا بين اغصانها الوارفة، لينشأ جيل جديد يغادر في الهجرة القسرية لكنه لا يلبث ان يعود. فالعصافير كالريح لا تحجب طريقها الحواجز ولا الجدران ولا نقاط التفتيش، لأنها تحلق عاليا في السماء فيما يبقى الجلادون وقاتلو العصافير في الاسفل دائما.