التغريدة المؤجّلة - حنان باكير
هذه تغريدة كان يفترض أن تكتب في بيروت قبل شهرين. لكني لم أشأ أن أفسد فرحة وجودي مع الأحبة والأصدقاء هناك. فقمت بتأجيل كتابتها وبالتالي تأجيل وجعها.
اتصلت بي الصديقة غادة فغالي، رئيسة جمعية " ممكن ".. قالت لي ان مجموعة من طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت، يودّون لقائي. التقينا بعد يومين في مقر الجمعية في شارع الحمرا.
كانوا مجموعة من الطالبات والطلاب، من مختلف الاختصاصات. يتمتعون بكل حيوية الشباب وطاقاته وفرحه. إلا أنهم احتجّوا، كون غادة أهدتهم كتبي، لكنها لم تعطهم فرصة اللقاء معي لمناقشتي بها. كان واضحا اهتمامهم بتدوين الذاكرة الفلسطينية، بل ويطلبون المزيد من القصص التي صنعت تاريخ آبائهم وأجدادهم.. وكانوا من الجنسيّتين اللبنانية والفلسطينية. تحادثنا لأكثر من ساعة، وعلى أمل تحديد موعد للقاء طويل، قبل زحمة الامتحانات.
لفتني، أن قراءتهم لم تكن سطحية! بل بدأوا بمناقشتي بمواقف وأمور، من كتاباتي.. سألتني إحداهن عن موقفي من الانتحار في الرواية! وهذا ما كان قد استوقف ايضا، الكاتب الراحل عزت الغزاوي، حيث أعجبه، وتمنى لو أني أسهبت به قليلا. شاب آخر ناقشني بنهاية الرواية وما المقصود بها! كان هذا في لقائنا السريع.
خرجت من اللقاء منتشية فرحة بهؤلاء الشباب، وازدادت قناعتي بضرورة تدوين الذاكرة. تذكرت أبي.. وكيف اصطفاني من دون إخوتي لأكون خزان ذاكرته.. ساعدني في ذلك أني كنت الأثيرة لديه.. وحظيت بكل شيء... الدلال، والسخاء والحرية.. فملأني عنفوانا وكبرياء لا مثيل لهما! الأهم أني اصبحت مرافقته في معظم الأوقات.. واعتدت على أصدقائه وزاد شوقي لحكاياهم أيام فلسطين.. في أوقات عزها وخيراتها.. وزمن الشباب وطيشه.. وفي أوقاتها العصيبة.. والدفاع عن مدنها وقراها.. وتصديهم للمشروع الاستيطاني.
كبر أبي، وكبر أصدقاؤه، واستعدوا للرحيل الأخير، واحدا تلو الآخر! أصبحت لقاءاتهم أكثر حميمية والتصاقا بماضيهم في فلسطين! يستحضرون روحها في طقوس تعبدية.. وأصبحتْ أمْيَل الى الحزن والحسرات.
في كل مرة أعود الى بيروت، يتناقص فيها عدد الأصدقاء. ومَن لم يعد قادرا على الخروج من بيته، أقوم وأبي بزيارته، كنا نكتشف أنهم بيننا بالجسد، فيما أرواحهم عادت لتحوم فوق عكا أو في مدنهم وقراهم! وأبي أيضا غفا وهو يهجس بعكّاه!
حافظت على طقوسنا بعد رحيله، إذ وجدت في أصدقائه تعويضاً عنه.. فأزور من تبقى منهم... كنت أراهم يتلاشون جسديا وصحيا، شيئا فشيئا.. لكن ذاكرتهم تزداد توقدا، وعودة الى الماضي! رحلوا جميعهم.. وبقيت أنا أتلو حكاياهم ووصاياهم!
كنت أستعرض هذا الشريط من الذكريات، بعد ذلك اللقاء مع الطلاب.. وأسير الهوينا في شارع الحمرا.. فجأة ارتعدت.. هلعت.. ودون شعور، تسارعت خطواتي بفعل التوتر الذي سكنني... يا الهييييييييييي! هل تقمصت أرواحهم جميعا، وأصبحت أنا من تتلو الحكايا للشباب؟! هل كبرت مثلهم؟ لا لا.. كيف هربت السنون مني؟ انشغلت بحيوات الآخرين من الكبار. ونسيت أن أحيا كما أريد أو ينبغي! وهل أصبحت مقصد عشّاق الذاكرة من الشباب؟! آآآآه يا أبي ليتك لم تدلّلني، ولم تحبني أكثر.. لكنت أبعدت عني وجع الذاكرة!