خفيف الظل يفارق الدنيا - عدلي صادق
اتسع المشهد على ريشته، مثلما يتسع الفتق على الراتق. طوى خفيف الظل ريشته، وغادر الدنيا فأُعلن النبأ: لقد مات مصطفى حسين، فنان الكاريكاتير الأشهر في الصحافة المصرية!
سلخ نحو ثمانين عاماً من العُمر. وفي حياته كفنان، أنجب، من صُلب الريشة، عدداً لا حصر له من الأبناء المفترضين، وهؤلاء لم يرحلوا معه ولن يرحلوا، لأن الأبناء البيولوجيين قلّما يرحلون مع آبائهم الموتى في موعد واحد مع الموت، اللهم إلا عندنا في فلسطين، عندما تستشهد الأسرة بفعل القصف. وفي السياق الطبيعي للحياة، فإن كل نفس ذائقة الموت. لكن الأمر يختلف بالنسبة لمصطفى حسين. فقد كانت شخصياته الحاضرة دائماً في رسوماته، هي أبناؤه. ففي صبيحة كل يوم، كان الفنان يقدم للناس بعض أبنائه ويعرض خباياهم وتساؤلاتهم وهمومهم وجنونهم. ولأن الدنيا زاخرة بأمثالهم، على النحو الذي تعجز عنه اية مخيّلة، فقد تعيّن عليه أن يستعين بكاتب ساخر لكي يمده بالفكرة. أحمد رجب يتخلق المشهد ومصطفى حسين يرسمه، بريشة نظيفة تلقائية، بارعة ومقتدرة، بلا ظلال ولا خربشات زائدة. هو يعرف أن الناس عازفين عن القراءة، لا سيما المطولات والتفصيلات، لذا تراه يختزل أحوال اللحظة، بلوحة بسيطة مع جُملة مقتضبة. يزاوج بين المتناقضات، فيقدم شخصيتين، كلٌ منهما على حِدة، واحد يشكو من "مصاعب" الثراء ومن ضَجر الرفاهية، واسمه "عزيز بك الأليط" والثاني سلبي يتشبّه بالأول بينما هو في الحضيض، واسمه "الكَحّيت" الذي لا يبذل أي جهد للارتقاء ولا يتخلى عن تطلعه الطبقي. وكانت الصفحة الأولى، في "الأخبار" المصرية، تعج بأنباء العنف والمآسي وبوعود الحكومة. ومصطفى حسين، يعرف أن الحدث المؤلم والوعد الجميل، سيُقابلان من القارئ بانطباعات تتدرج بين الاحساس بالمرارة والرغبة في السخرية. اخترع رسماً بحجم طابع بريدي، يُحشر في الصفحة الأولى، مخصصاً لشخصية كاريكاتيرية سمّاها "مُطرب الأخبار" وهو مغني أفراح وحفلات شعبية، منكوش الشعر أجعده، استبدت به أوهام عذوبة الصوت، لكنه ما أن يبدأ، حتى تنهال عليه الكراسي فيُصاب ويهرب، ثم يظهر في مساحة الرسم، معللاً ما حدث، بشىء لا علاقة له بالموضوع. في كل يوم "علقة" يعقبها تعليل مُضلِل. وفنان الكاريكاتير ذو مخيلة خصبة تنتج المفارقات، لتصنع يومياً بسمة نادرة داخل الصفحة الأولى!
أما المرأة المتسلطة، المزهوة بجمالها، وباندهاش الرجل وطواعيته؛ فإن مصطفى حسين يستنطقها في الصفحة الأخيرة، من خلال رسم صغير، عنوانه: "الحب.. بالنسبة لها" ثم يطرح التعريف على لسانها. في كل يوم تعريف قاسٍ لمعنى الحب، كأن تستكمل فقرة العنوان، بأن تقول في ذات يوم، مع رسم يتبدى فيه الرجل وهو يكنس الدار، في وسيلة إيضاحية للمعنى الذي تريده المرأة للحب!
في السياسة، أيام مبارك، كان مصطفى حسين، يركز على رئيس مجلس الوزراء، ويكون النقد بلسان فلاح بسيط من قرية وهمية سمّاها "كفر الهنا". يظهر رئيس الحكومة جالساً، يتلو عليه الفلاح، مديحاً ملغّماً بالنقد اللاذع، منتهياً بعبارة "يجعله عامر"!
مع بدايات التحول الاجتماعي والسياسي في مصر، بعد ثورة يوليو 1952 تفجرت مواهب مصطفى حسين عبر الصحافة. هو أحد اثنين مصرييْن، نهضا على خطى اثنين غير مصريين كانت لهما الريادة في تقديم الكاريكاتير للمصريين: الكسندر صاروخان، الأرمني المتمصّر، المولود في القوقاز، والمحترف الذي تعلم الفنون في اسطنبول، والسوداني البديع حسن حاكم. كلاهما، قدم ما يستطيع، بأدوات تعبير فني عالية المستوى، لكي يعبر عن حيثيات اصطخاب المجتمع المصري في أعماقه. وكانت الثورة تدفع باتجاه تنمية المواهب وإحلال الكادر الوطني محل المتمصرين الوافدين، وتكريم أولئك الأجانب الذين ظلوا أوفياء للقضية الوطنية المصرية. فقد منح جمال عبد الناصر الفنان "صاروخان" الجنسية المصرية، لأنه من خلال محاكاة حياة الإنسان المصري البسيط، تبوأ مكانة عالمية مرموقة، جعلت المنتديات الفنية الايطالية تعتبره أفضل فنان كاريكاتير في القرن العشرين. من هذه النقطة، حيث امتزجت فكاهة المصريين، بقدرة الفنان القادر على دس ريشته في مرئيات المجتمع، لكي يرسم؛ انطلق مصطفى حسين في رحلته التي انتهت عندما وافاه الأجل المحتوم، في العشر الأواخر من رمضان، أي قبل شهر، حسب مصادر مخالفة للمصدر الذي أعلن عن وفاته يوم أمس. له الرحمة ولمصر الاستقرار والأمن والأمنيات التي ظل يحلم بها مصطفى حسين ومبدعو مصر على كل صعيد.