"مروان باكير" - عيسى عبد الحفيظ
مروان باكير لمن لا يعرفه، كادر فلسطيني على درجة عالية من الالتزام والوطنية الصادقة. مناضل ذو تاريخ حافل بالعطاء، بالاضافة الى كونه يتمتع بثقافة عالية في عالم السياسة والادب. قارئ نهم يفاجئك بمعلوماته الواسعة حول الشخصيات السياسية والمدارس الفكرية وسعة اطلاعه.
فارقنا مروان، احد كوادر جبهة التحرير الفلسطينية منذ سنوات على إثر مرض كان امتدادا لما تعرض له من تعذيب على أيدي الجلادين في سجون دمشق.
قام مروان بامداد الشهيد محمد خير عبد الرؤوف ببطاقة تنظيمية وعندما تم اعتقال الشهيد محمد وتحت التعذيب الشديد الذي أودى بحياته، اعترف على مروان الذي أودع في السجن بدمشق لمدة خمس سنوات.
وعندما صدر الحكم باعدام محمد خير شنقا في ساحة المرجة، وكان قد استشهد تحت التعذيب، تم سحب لسانه بالكماشة ليظهر وكأنه قضى بسبب الشنق وتطبيقا للحكم الجائر الصادر بحقه، بعد قيامه بعدة عمليات نوعية في دمشق نفسها. القبض على محمد خير تم بالصدفة المحضة، فقد حاصرت قوة من الجيش (سرايا الدفاع) المبنى الذي كان يقيم فيه محمد خير لالقاء القبض على عصابة سرقة لا شأن لمحمد بها، لكنه اعتقد ان الحصار بسببه هو فقام بفتح النار على القوة ما ادى الى وقوعه في الاسر بعد نفاد ذخيرته. وتعرض لتعذيب لا يتحمله البشر ولا حتى الحيوانات. ثم تم اعدامه شنقا، وهكذا كان، لكنه لم يقض على حبل المشنقة بل تحت التعذيب. وفي فجر احد ايام الصيف حضر والداه من الاردن حيث قدما التماسا للرئيس الاسد بتخفيف الحكم الى المؤبد لكن طلبهم قوبل بالرفض، وهكذا تم تعليق ابنهم البكر محمد على حبل المشنقة امامهم، وتم سحب لسانه ليظهر وكأنه قضى على منصة المشنقة!؟
حدثني مروان عن فترة الاعتقال التي استمرت سنين في زنزانة انفرادية دون تهوية ودون تدفئة، وكان رحمه الله يبتسم وهو يروي كيف انه كان يشعر(بالسعادة) بعد شبحه وضربه بالعصي والكرابيج كل ليلة وحين يعيدونه الى الزنزانة يرشون عليه دلوا من الماء البارد في عز فصل الشتاء البارد. ذاك الدلو كان (نعمة) مروان لاطفاء النيران من جسده الملتهب.
خرج مروان بعد الصلح الذي تم بين الشهيد ابو العباس والرئيس حافظ الاسد، لكنه خرج بكلية واحدة وأثار السياط تغطي كامل جسده كالوشم.
وبعد الخروج من بيروت، تم ارساله الى الجزائر وتم تكليفه بقيادة الساحة، وهناك تعرفت عليه. واذكر حادثة غريبة وطريفة لكنها تظهر مدى التزام مروان بالشرعية الفلسطينية، فقد طلب فصيل (يساري جدا) الا يكون لسفارة دولة فلسطين حق التدخل في عملية الخروج والدخول الى الجزائر بالنسبة لمن يأتي منهم او يغادر، وحاول التنظيم المذكور ان يعمم الظاهرة غير الفلسطينية، الا ان موقف مروان كان فلسطينيا حتى العظم وكان جوابه للمنسلخين عن جلدتهم ان وحدانية وشرعية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية خط احمر ولا يجوز لأي كان القفز عنه او التلاعب به.
بقي مروان في الجزائر عشرة اعوام حتى انتقل الى عمان ومنها الى الوطن ليتفرغ على كادر التوجيه السياسي، وفجأة، سقط في غيبوبة تم نقله بعدها الى عمان للعلاج، وهناك تحسنت حالته قليلا. مروان المدخن بامتياز اضطر الى ترك هذه العادة المحببة الى نفسه فقد كان يدخن بشراهة ولا ينظر حتى الى النوع فكلها سجائر كما كان يقول.
بدأت صحته بالتراجع تدريجيا وظهر عليه التعب وآثار المرض، وكانت آخر مرة قابلته فيها في سفارة فلسطين في عمان متعبا لكن معنوياته ممتازة، كان اكثر ما المه هو اضطراره الى ترك التدخين تلك العادة التي لازمت مروان طيلة حياته. لم يمهله القدر كثيرا فجاء خبر رحيله الذي لم يكن مفاجئا لمن عرفه، وجرى دفنه هناك.
وهكذا فقدت الساحة الفلسطينية احد كوادرها المتميزين وطنية وثقافة وعطاء. ندعو له بالرحمة والمغفرة ولكل شهدائنا الميامين، ولشهدائنا الذين يسقطون كل ساعة في غزة الصامدة، وهذا قدر الفلسطيني.