قمر واضحٌ..تحت التراب - عدلي صادق
سميح القاسم هذا، الذي غيّبه الموت قبل أيام، لم يكن في حياته صوتاً شعرياً قويا وعذباً وجسوراً وحسب. فمثل هذه الأصوات كثيرة. لكن سميح، بتجربته الخاصة كمناضل وطني، ومُبدعٍ جميل الروح والصوت والخِلقة، كان استثنائياً بمعايير الزمان والمكان. كأنما هو، بطل شريط سينمائي يعرض حياة رجل شجاع في زمن الرومان. ظل يفتح الأبواب مُحكمة الإغلاق، على مضرِب الشمس، الواحد تلو الآخر، حتى أعيته مشقة المسير الى النور وانتصار العدالة. فارق شبابه، وسِنَّه الوسطى، وعند عتبة الشيخوخة لفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يحقق المُبتغى. في رحلته الطويلة تلك، لم يكن واحداً من الشعراء الموهوبين الذين سجلوا انطلاقتهم الطبيعية، وانتجهم المخيم، أو ولدوا من رحم الغربة والاغتراب، أو تفتحت عيونهم في واقع المجتمع المستهدف بالحصار وبالنيران، أو كانوا من أبناء الثقافة السائدة والديانة السائدة. كان سميح استثنائياً وهو يفتح أبواباً مستغلقه، ويوسّع فضاءه، ولا يتقبل لنفسه راحة وفرصة لرغد العيش، أتيحتا لأبناء طائفته، على قاعدة المعادلات الظالمة التي تطغى في وطنه فلسطين. فقد اختُطفت الطائفة بمساعدة رموز تقليديين معظمهم لا يقرأون ولا يكتبون، رأوا في التماهي مع القوة الغالبة في المكان، طريقاً الى مصير مختلف والى انتماء مصطنع. أولئك كانوا يهجسون كابراً عن كابر، بضرورات الحفاظ على الذات الطائفية، بعد أهوال تعرضوا لها في منتصف القرن التاسع عشر في لبنان. ولطالما سعى المحتلون الى جعل الدروز قومية أخرى، وهم من أقحاح العرب. وتأسست على تداعيات الاختطاف، وسائل حياة أخرى رآها سميح، خديعة بذيئة, إذ كان ثمنها الأول الانخراط في الجيش الغاشم. موقف سميح المبكر، يمتزج فيه الشعر بالتطبيق العملي على نفسه وعلى أسرته. كان جزء من إخواننا الدروز، لجأوا الى فلسطين السمحة، وأسسوا لأنفسهم أربعة عشر قرية وباتوا فلسطينيين. سميح القاسم، في دائرة كفاحه الأولى، شعراً وثقافة وتصدياً بالصدر العاري؛ قاوم هذا الواقع، على مستوى هذه الدائرة، حتى الرمق الأخير من حياته، على اعتبار أن محنة الشعب الفلسطيني، وأمنياته وعذاباته، هي محنة وعذابات وأمنيات كل مكونات هذا الشعب. هنا، كان سميح حارساً للانتماء الحقيقي لأهله فأحسن إدراك المعنى الكامل للوطنية على الصعيد الفلسطيني. استطالت رؤيته لتصبح إحدى القامات العالمية السامقة في الذود عن حقوق الشعوب في الحرية والعدالة.
اجتياز سميح القاسم، منذ الدفقة الأولى من حياته، لمصاعب وعقبات الدائرة الأولى التي اجترح فيها وعيه وموقفه، واحتذاه كثيرون؛ يمنحه سمة جمالية زائدة، ظلت علامة فارقة له، ضمن رهط النبلاء الذين شكلوا صوت فلسطين من داخلها. وأوتار هذا الصوت، سواء شريكا البرتقالة درويش وزيّاد، أو الآخرين ممن رحلوا أو ما زالوا أحياء، وأدخلوا الوجع كثيفاً في مفردات لغتهم وامتزجت أحلامهم بالعذابات؛ سجلوا مجتمعين مأثرة الامتزاج العضوي بالوطن والذوبان فيه حتى السكون في ترابه، وصنعوا سخريتهم المريرة من طول أمد الاحتلال ومن غلبة المحلتين، ومما يتبدى في عربدتهم من اطمئنان صفيق لطول البقاء.
كان سميح القاسم يجدد بين الحين والآخر، علاقة صوته بزمن الهزائم. كلما وقعت واحدة منها ازداد عناداً وتفاؤلاً. كان يوثّق وشائج جديدة مع الأمل: "لديَّ مرضان، واحدٌ خبيث جداً وهو الاحتلال الصهيوني، وواحد بسيط هو السرطان. ثم أردف شعراً: كل شيء، هنا، واضحٌ.. لا غبار على شُرفةٍ أو ضباب/ محنة الحلم واضحةٌ بتضاريسها في بلاد العذاب/ والمراسيم لا تدعي سطوةً/واضحٌ كل شىء هنا..واضحٌ كغموض السراب/ والألفباء مُشرقة في المراثي ومُشرقة في الأغاني/ في مثلها والمثاني/ وأنا واضح فوق سطح التراب.. وواضحٌ تحت التراب!