متى ينقشع الغبار.. متى يبرد الجرح - يحيى رباح
لك المجد يا غزة, لك المحبة والسلام, وليس هناك اكثر منك استحقاقا للسلام, وانت تعلمين ان سلامك صعب الى حد المستحيل, لأن سلامك لا يتحقق الا باكتمال القيامة الفلسطينية, بقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس وغزة قلبها وليس ان تكون هناك مرمية وراء السياج.
الاسرائيليون يؤمنون الى حد اليقين القاطع ان قيام دولة فلسطين المستقلة معناه موت دولة اسرائيل، نحاول ويحاول غيرنا من عرب ومسلمين وقوى دولية ان نصحح هذا الخطأ الاسرائيلي الشاذ, فاطلقنا ثورتنا الفلسطينية في مطلع عام 1965 في وجه الانكار الاسرائيلي الشامل لنقول نحن هنا, نحن باقون هنا, وحاولنا ذلك عندما وقف الرئيس ياسر عرفات فوق منصة الامم المتحدة حاملا البندقية وغصن الزيتون مطالبا العالم بأن يعزز الانحياز لغصن الزيتون !!! وحاولنا مرات ومرات منذ مؤتمر مدريد الى اتفاق اوسلو الى كل جولات المفاوضات التي خضناها بعقل مفتوح وآخرها التي افشلها نتنياهو في اول نيسان الماضي, ولكن الانكار الدموي ظل هو جوهر الموقف الاسرائيلي, حيث لا يجتمع الاسرائيليون الا على الدماء والاشلاء الفلسطينية.
قطاع غزة اول الرصاص واول الحجارة واول الوطن المتاح, ظل دائما يعاني من اشكالية مزدوجة, فهو النموذج الذي ولد من رحم النكبة, يحتوي كل خصائص النكبة, غالبيته الساحقة من اللاجئين, لجوء من الوطن الى الوطن في ظروف بالغة الصعوبة, تستعصي على الفهم احيانا, وقد حملته اقداره بان يكون بعد النكبة الاسم الفلسطيني الوحيد الذي تنطلق منه فلسطين القضية والهوية والكيان, ويا له من قدر خارق, فقير يحمل الميراث كله, محاصر يحمل حلم المدى المفتوح, صغير مثل قبضة اليد ولكنه يحمل كل الاسئلة الموجعة.
بعد النكبة بثلاث او اربع سنوات بدأت الاسئلة الصعبة تنهال كالمطارق على رأس قطاع غزة, من بينها كان سؤال الاسكان والتوطين في سيناء وهو المشروع نفسه الذي انتج الانسحاب الاسرائيلي الاحادي من قطاع غزة في خريف 2005, ولكن قطاع غزة رفض ذلك العرض ببطولة خارقة, وذلك الرفض انتج اعمق التحولات في مسار الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر, وهي التحولات التي ادت الى نشوء حركة الفدائيين التي قادها الضابط المصري المدهش مصطفى حافظ وانتهت باغتياله وباحتلال قطاع غزة في عام 1956 وكان الاسرائيليون قد حاولوا صياغته كنموذج جديد ولكنه رفض مرة اخرى وابناؤه الشجعان هم الذين رفعوا راية الادارة المصرية وسقطوا شهداء. ومن تلك التجربة برز اسم خليل الوزير وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وهم ابرز مؤسسي حركة فتح مع رفيقهم والمعهم ياسر عرفات فسرعان ما تشكلت حركة فتح التي اعلنت انطلاق الثورة الفلسطينية.
الان نحن في صيف عام 2014, والعدوان الاسرائيلي الذي بدأ في الثاني عشر من حزيران اصبح في يومه الثاني والسبعين, من الخليل الى الضفة الى القدس التي بلغت ذروتها باحراق الفتى محمد ابو خضير, ووضع اسس التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الاقصى الى العدوان على قطاع غزة باقصى درجة من النيران الكثيفة والخسائر الفادحة, وتحطيم قطاع غزة على راس اهله وجعلهم يختفون مع الركام, اعتمادا على غياب عربي ابشع من الموت, لان ما يفعله العرب بانفسهم داخل بلادهم ونموذجه الفاضح في داعش وجبهة النصرة وانصار الشريعة وفصائل الاسلام السياسي وارهابيي سيناء وغيرهم, هو اكبر شفاعة لاسرائيل في تاريخها, حتى ان بعضا من شعوبنا العربية تحسدنا على موتنا في غزة, حيث اسرائيل تنذرنا قبل دقائق من قتلنا بينما الارهاب الاسلامي المتوحش والمفجع والكافر بكل شيء لا ينذر ضحاياه.
وليس هذا فحسب: بل ان تقدير الموقف الاسرائيلي يعتمد على خلل فاضح في النظام الدولي الذي نعيش تحت سقفه فينحاز الى القاتل ضد القتيل !!! وفي وضع مثل هذا فان الخيارات الفلسطينية يجب ان توزن بميزان من الماس وليس فقط من الذهب, والاولويات يجب ان ترتب بعقل راجح بعد تنقيتها من كل الاوهام والاكاذيب واثار المماحكات الاقليمة.
هل قطاع غزة قادر ان يعيش بمعزل عن وطنه الفلسطيني؟ والجواب بالنفي المطلق, والجميع يعلمون ان هذا هو السبب الحقيقي الذي اكتشفه الاسرائيليون منذ عقود, فعرضوا قطاع غزة على اي طرف يقبله خارج سياقه الفلسطيني, وهذا هو السبب وراء الانسحاب الاسرائيلي من طرف واحد.
الآن أصبح الوضع اخطر واكثر استحالة لان قطاع غزة بدخوله على يد حماس طرفا فيما هو ليس طرفا فيه وهو صراع المنطقة ضد الاسلام السياسي, فان قطاع غزة تشبث بهذا الرهان الوهمي فمعناه انه سينذر نفسه للموت بالمجان, ولذلك قلنا الف مرة لاخوتنا في حماس انهم لن يجدوا اكثر امانا وحرصا من الشرعية الفلسطينية والوحدة الفلسطينية والمصلحة الفلسطينية. ولقد رأيتم باعينكم كيف حين اعلنت المصالحة مجرد اعلان انطلقت فوق رؤوسنا سحب الجحيم.
انطلاقا من ذلك تصبح اولوياتنا واضحة وملحة ومقدسة واي شيء آخر دونها مجرد سراب, واول هذه الاولويات هي وقف الموت, هذا الموت المعذب, وهذا الدمار ما فوق الشامل, فلمن نقاتل اذا لم يكن شعبنا في الحساب؟ وان نتمترس حول وحدتنا, ارأيتم كم كان الانقسام مفيدا لعدونا الاسرائيلي.
تحت سقف هذا الموت الكبير يطرح علينا عدونا الاسرائيلي خيارين مستحيلين, ان نرفع الرايات البيضاء وان ننكر المقاومة التي هي حقنا المقدس, وهذا مستحيل, ولكي ننجح يجب ان نعود الى شعبنا وليس ان نعود عليه, فمتى ينقشع الغبار ويبرد الجرح حتى نتحاور فلسطينيا بشجاعة وصدق وشرف.