ذاكرة المكان - د. أسامة الفرا
المكان والزمان توأمان سياميان في حياة كل منا، يرتبطان فيما بينهما بقنوات نعلم الكثير منها وما لا نعلمه عنها أكثر، نلمس العلاقة بينهما ولكننا نجهل كيف تفاعلت الكيمياء لتصنع هذه العلاقة، تفاعلات معقدة ومركبة عادة ما تدخل في مكوناتها..عظائم الأمور بجانب صغائرها، كلما طال أمد تفاعلهما كلما التصق أكثر المكان بالزمان وبات من الصعوبة عزلهما والفصل بينهما.
جرائم الاحتلال في حربها على غزة ببشاعتها يجب ألا تدفعنا للوقوع أسرى الأرقام، فوراء كل شهيد قصة وحكاية، لا تتعلق فقط به بل تمتد خيوطها إلى المحيطين به، سواء من رحل منهم معه أو بقي على قيد الحياة ترافقه مرارة الفراق، وبالتالي نخطيء إن إعتقدنا أن الشهداء هم عدد من رحلوا عنا دون أن ناخذ بعين الاعتبار إمتداد علاقتهم بالأحياء، ونخطيء ايضاً إن إعتقدنا أن المنازل المدمرة هي مجرد أرقام يتم تداولها بلغة الحساب، يطغى عليها الخسارة المادية رغم حقيقتها المؤلمة وما تمثله من حزن له علاقة بالحاضر المفقود والمستقبل المجهول، حيث أننا نسقط دوماً من حساباتنا الحياة التي شكلها على مدار سنوات عدة تفاعل الزمان مع المكان.
أن تغادر المنزل تحت وطأة القذائف المنهمرة عليك دون توقف، أو بفعل تحذير مسبق لا يترك لك متسع من الوقت سوى أن تفر بأفراد عائلتك كي تنجو بهم، أو أن يأتيك دون سابق إنذار يأخذ معه من يشاء تحت الركام، جميعها يحيل منزلك بما فيه إلى كومة ركام، وحتى الاطلال ذاتها قد تخفيها أنياب الجرافات أو يبتلعها الصاروخ في جوف الأرض فلا يترك لك أثراً مما كان، فجأة دون سابق انذار تفقد المكان فيما يترنح الزمان قبل أن يعيد توازنه، يأخذ معه المكان جزءاً من التاريخ والكثير من الذكريات، ويبتلع معه ما شاء له من مقتنياتك وأوراقك وكلام كتبته السنوات على الجدران.
أنت بحاجة لأن تعيد تعريفك من جديد، بدءاً من الهوية مروراً بالشهادة وعقد الزواج، يمكن لك ان تستخرج ما يثبت أن هذا ابنك وتلك مدرسته وذلك فصله، ويمكن لك أن تنتشل من بين الركام بقايا حقيبته المدرسية وهدية مزقتها الحجارة، الحقيقة أنك لا تبحث بين الركام عن أشياء تعيد ملكيتها لك، أنت تلهث وراء ذكريات وتاريخ يتسرب منك، فهنالك الكثير لا يمكن لك أن تستعيده، أو على الأقل تفقد الشاهد في روايتك حيث المكان هو الشاهد الأقدر على استحضار الحكاية، الأهم في حكاية المكان ليس فقط ما يتعلق منه بالأحياء، حيث يمكن لك أن تعيد نسج الصورة معهم من جديد، لكن كيف يمكن لك أن تفعل ذلك مع من رحلوا عنه وابتلع الركام بقاياهم؟،هي من كانت تروي لأحفادهم عن زمن غير زمانهم.
حجم المأساة عادة ينسينا الكثير من التفاصل الصغيرة، بل أن المأساة ذاتها تتراجع أحياناً أمام ما هو أكبر منها، أمام عشرات الأسر التي غادرت السجل المدني، أمام طفل ابتعد الموت عنه بعد أن اقتلع عائلته، أمام أب مكلوم بوحدته منذ أن رحل عنه المحيطون به دون وداع، هي المأساة كلما كبرت تخفي بين ثناياها أشياء لكنها تبقى عالقة في ذاكرة الزمان حتى وإن غادرها المكان.