للقاتل بطولاته - د. أسامة الفرا
ليل غزة هو الآخر فريد، الظلام فيها يمنحك فرصة أن تلاحق النجوم في سمائها، ترصد قريبها وبعيدها وكبيرها وصغيرها، لا تستوقفك روعتها فأنت تبحث عن الصوت المزروع في جنباتها، المقبل اليك من طائرة بطيئة الحركة ترصد الحركة والسكون فينا، هي تنزع الهدوء من داخلك مثلما يفعل رجل مخابراتهم حين يبقيك في غرفة صغيرة تصارع موسيقاه الصاخبة، مهمتها لا تكمن في ذلك فهي تبحث عن ضحيتها التالية، قبل أن تنازعها اليها طائرة أخرى هي أكثر منها قوة وجبروت، الضجيج في سمائنا يخفت قليلاً لكنه لا يغادرنا، يزرع الموت في أجسادنا ولا يرحل عنا.
طائرة الاستطلاع التي تصم آذاننا ليلاً ونهاراً ترسل صاروخها بصمت، لا يمنحنا فرصة انتظاره، يأتينا بغتة ليمزق ما شاء منا، ينثر أطرافنا يحوط بها الموت الذي أسكنه في المكان، تواصل الطائرة التقاط صور الأشلاء وأنين المصابين، هنا يكون الموت بصمت ودون مقدمات وبلا أجسام متكاملة، يتراجع صوتها ليختفي في جوف المقبل من بعيد، طائرة حربية تخترق حاجز الصوت والتفكير، فيما نرقب نحن أين ستلقي حملها تفر العصافير الى السماء بحثاً منها عن أمن لا توفره الأماكن لها، يعلو ضجيجها بما ينبئ عن قرب تحرك الموت منها.
تنكمش الأجساد وتغوص في ذاتها فيما يغتلس البصر نظرة الى السماء، وبينهما يطل عليك ألف سؤال وسؤال، ليس هناك متسع من الوقت لأن تجيب على أي منها، هل يتجه الصاروخ اليك أم الى جارك؟، كم جسد سيلتهم من القابعين على الأرض؟، كيف سيختلط الموت مع الركام؟، من سيبقى من الأسرة على قيد الحياة؟، وهل هناك حياة لمن أخطأه الموت وأبقاه وحيداً؟، كم من الذكريات سيقتلع هذا المجنون ليحيلها الى أطلال؟، من سيرافق ضحاياه الى مثواهم الأخير؟، وأي راية سنلف بها أجساد أطفالنا؟، وهل سيكون للعلم حضور أم هو الغائب الأكبر؟.
يعلو صوت الانفجار في المشهد الدراماتيكي، لست البطل فيه هذه المرة لكن بالمؤكد أن له أبطالا، عليك انتظار التالي فلم يشبع "داراكولا" العصر من الدماء، من قال اننا نعشق الموت!، فقد خلقنا لعمارة الأرض لا للموت، مؤكد أننا لا نعشقه ولا نهواه ولا نحبه لكن لا نخافه ولا نخشاه، لأننا نؤمن أن الموت يضع نهاية للأجساد ولا يدنو من الأفكار والمعتقدات، حتى الأجساد التي تغادرنا تبقى حية في المبادئ والمواقف التي عاشت معها، لتمنحها بقاء يفتقده الكثير من الأحياء.
آن للقاتل أن يعود ويروي لأطفاله بطولاته، كيف مزق أجساد أطفال يلهون على شاطئ البحر؟، وكيف اقتلع اسرة بشيخها ونسائها وأطفالها من على وجه الأرض؟، آن له أن يحدثهم عن صاروخه الذي لم يخطئ الجنين في بطن أمه؟، وكيف لاحق طفل قبل أن تنتشله الطواقم من بين الأنقاض؟، آن له أن يحكي لهم كل بطولاته ويستشهد عليها بالصور ومقاطع الفيديو، لكن عليه قبل أن يخمد الى النوم قراءة ما كتبه دم أطفالنا "لن ننسى ولن نغفر"، هذا هو ميراث أطفالنا يتناقله جيل بعد جيل.