نحن مع غزة.. ولكن، من معنا - جواد بولس
كما كان متوقّعًا وطبيعيًّا، فلقد توصّل الإسرائيليون والفلسطينيون إلى اتفاق على وقف إطلاق النار لمدّة شهر، وأتاحوا بذلك لشريان الحياة أن يتدفّق في شوارع غزة بعد أن روّت شرايين آلاف القتلى والجرحى ترابها، وهي التي لم يكن وراءها إلّا البحر، وأمامها جنازير وفوّهات دبابات الغاصبين.
كما كان متوقعًا وطبيعيًا، أعلن كل طرف مباشرةً عن انتصاره وسحقه لقوّات العدو الذي خرج من هذه المعركة كديك دخل إلى حلبة الصراع، فجرّ منها وهو أذل من دجاجة.
وفقًا لجميع المفاهيم البسيطة والمباشرة نستطيع أن نقول ما أكدناه من قبل؛ إسرائيل لم تنتصر في عدوانها المارق على غزة، لأن القوي، هكذا قلنا، إن لم يقضِ على عدوه الضعيف، فهو لم ينتصر، والضعيف، إن لم يستسلم ولم يهزم، فهو حتمًا المنتصر.
هكذا في حسابات التاريخ والبسطاء.
لم يكن العدوان الإسرائيلي على غزة حربًا بمعناها التقليدي ولا حتى حرب "غيريلا" إلّا عندما اجتاحت فرق جيش الاحتلال جزءًا من القطاع، ولوقت محدود من الزمن تخللته مواجهات كانت قريبة من حروب الغيريلا المعروفة في التاريخ. ولهذا، فإخضاع هذه المواجهات لمعايير النصر والهزيمة التقليديين وتعريفاتها المقبولة سيحمل قسطًا من المغالطة وسيجافي الحقيقة.
مع هذا، يجوز للمراقبين ترصيد بعض المكاسب في حسابات الفرقاء، بيد أن، العبرة الأساسية ستبقى مرهونة بما ستفضي إليه التداعيات المتفاعلة على الجبهات السياسية الثلاث المتشابكة والمتصارعة في آن: ففلسطينيًا، سيكون ما جرى انتصارًا فقط إذا استؤنفت حالة التوافق الوطني، واستعادت حكومتها الوليدة حديثًا شرعيتها وقوتها على أرض الواقع، وباشرت ممارسة حكمها الفعلي في غزة كما في الضفة المحتلة، فإقامة هذه الحكومة كان الفعل الذي أخرج الدب الإسرائيلي من جبّه، ليبدأ رحلة صيده دون أية هوادة أو مراعاة لعرف إنساني أو قيمة وقانون، والعملية العدوانية استهدفت أول ما استهدفت ثمار التوافق الفلسطيني الاستراتيجي وأجواء الوحدة التي بدأت تبرعم في تلك الأيام، وأمّلت تقويضها ونسفها.
أمّا عربيًا، فلقد تعرّت مرّةً أخرى معظم الأنظمة التي وقفت، في أحسن الأحوال، وقفة الشامت المتفرج، وفي أحيان أخرى كانت شريكة مع إسرائيل، إن لم يكن بالفعل ففي الأماني والدعاء للفلسطينيين بالهزيمة، وللشعب بالخنوع والتوسل والاستسلام. محاولات احتواء غزة الفلسطينية من قبل بعض الأنظمة العربية والمحاور ما زالت قائمة، وفي حالة نجاح تلك المحاولات سيتحوّل صمود غزة وبطولات أهلها إلى حطب أحرِق على مذابح مؤامرات خارجية ومصالح أجنبية.
ودوليًا، فهنالك من يسعى كي تصير غزة رهينة لأحلاف تنشط جيوشها ومرتزقتها في منطقة الشرق الأوسط ويقاتلون لفرض خارطة جديدة له، تقوّض الجغرافيا القائمة، وتؤسس لتاريخ جديد مبني على الدم الذي يسفك في بلاد العرب وأوطانهم.
وعليه فالأيام المقبلة مصيرية وحاسمة، وكثير من ذلك سيتوقف على حكمة اختيار القيادات الغزّية وجهة علاقاتها الاقليمية؛ فإما أن يُنضج صمود الغزيين ويكتمل ليغدو، وفق معايير التاريخ، انتصارًا يقرّب يوم الاستقلال الوطني الحقيقي وفجر الحرّية الفلسطينية الكاملة، أو أن يحيل سوء الاختيار، البلاد إلى جسد ذبيح قلبه يدمى في القدس وكبده في غزّة يتقطع.
الأيام حبالى ولا نعرف ماذا تلد. كلّ الخيارات مفتوحة، وستكون العبرة في الصباح الأخضر الآتي حين سيفيق فيه الوطن متخمًا من نشوة نصر مرصّع بالزمرد والدم ورائحة الرصاص، ليستأنف الفلسطيني رحلته من جديد، إمّا على طريق الوحدة والوطن الواحد والاستقلال، أو إلى لجّة الوهم والغرق في بحر غزة.
لقد تأثّر فلسطينيو الاراضي المحتلة عام 1948 من مجريات المواجهة الأخيرة، وازداد وضعها خطورةً وسوءًا، وبتنا بحاجة أكبر من أمس، لقيادة قادرة على وضع صيغة مواجهة حكيمة تضمن الخلاص مما تحيكه المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة. لن يختلف عربيان وطنيان على ضرورة تأييد مطالب الوفد الفلسطيني الموحّد في المفاوضات الجارية في مصر، ولكن أن تكتفي قيادات الجماهير العربية بإصدار بيان "تأكيد موقف وتجديد العهد" فهذا يدلّل على قصور هذه القيادة واستسهالها للاستظلال في خيمة اللغة الفضفاضة والمعوّمة، وخلو جعبتها مما تحتاجه ساحتنا الداخلية. لقد علّل النائب محمد بركة عدم توقيعه باسم حزبه، على ذلك البيان بما غاب عن نصّه وغيّب، فلا يعقل أن يكتفي القادة بنص إشهاري عام يؤكد البديهي دون أن يتضمّن نصوصًا خاصة بحالتنا ووضعنا نحن الجماهير العربية في إسرائيل، فمن الضروري أن يشار لحقوقنا المداس والمعتدى عليها- لا سيما في زمن العدوان وبسببه، وإلى تنامي الفاشية في مناخ العسكرة والقوة والبطش، والتأكيد على أن هذه الفاشية استهدفت واعتدت على مئات من اليهود الذين خرجوا للشوارع ضد سياسة حكومتهم العدوانية ونادوا بإنهاء الاحتلال ومن أجل الحقوق الفلسطينية الكاملة، والأهم كان وجوب تضمين الوثيقة مطالبة بضرورة استكمال الوحدة الوطنية الفلسطينية ضمن إطار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
ما غاب عن النص كان مهما وسببًا لعدم قبول الوثيقة كما جاءت، ولكنني أضيف على ذلك تحفظًا يتعلق بما ورد من ديباجاتٍ في النص وفي روحه وما يعكسه كل ذلك من مواقف سياسية لا تترك للنائب بركة ومن على طريقه مكانًا للموافقة عليه وقبوله. وهذا موضوع يحتاج إلى مقال آخر.
تأكيد مواقفنا إزاء غزة ومطالب أهلها يأتي من باب الطبيعي والبديهي وليس فعلًا خارقًا وفذّا. فنحن مع غزة، ولكن قبل ذلك وبعده إسرائيل تتقدم بخطى حثيثة على طريق القمع وتضييق أنشوطاتها على رقابنا وحقوقنا وحياة أولادنا باتت في خطر حقيقي، لذلك تبقى حاجتنا إلى السلامة أهم من لغة المزايدة والإجماع المزيّف الذي يأخذنا بهرولة على طريق الندامة. فنحن مع غزة! ولكن، من معنا؟